وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَاللَّيْثُ وَالثَّوْرِيُّ :( هُمَا فَرْضٌ فِيهِ ).
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ :( لَيْسَا بِفَرْضٍ فِيهِ ).
وقَوْله تَعَالَى :﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ﴾ عُمُومٌ فِي إيجَابِ تَطْهِيرِ سَائِرِ مَا يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ مِنْ الْبَدَنِ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ شَيْءٍ مِنْهُ.
فَإِنْ قِيلَ : مَنْ اغْتَسَلَ وَلَمْ يَتَمَضْمَضْ وَلَمْ يَسْتَنْشِقْ يُسَمَّى مُتَطَهِّرًا فَقَدْ فَعَلَ مَا أَوْجَبَتْهُ الْآيَةُ.
قِيلَ لَهُ : إنَّمَا يَكُونُ مُطَهِّرًا لِبَعْضِ جَسَدِهِ، وَعُمُومُ الْآيَةِ يَقْتَضِي تَطْهِيرَ الْجَمِيعِ، فَلَا يَكُونُ بِتَطْهِيرِ الْبَعْضِ فَاعِلًا لِمُوجِبِ عُمُومِ اللَّفْظِ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى :﴿ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ﴾ عُمُومٌ فِي سَائِرِهِمْ وَإِنْ كَانَ الِاسْمُ قَدْ يَتَنَاوَلُ ثَلَاثَةً مِنْهُمْ ؟ كَذَلِكَ مَا وَصَفْنَا وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْتَصِرَ مِنْ حُكْمِ آيَةِ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهُمْ ؛ إذْ كَانَ الْعُمُومُ شَامِلًا لِلْجَمِيعِ، فَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى :﴿ فَاطَّهَّرُوا ﴾ عُمُومٌ فِي سَائِرِ الْبَدَنِ فَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِهِ.
فَإِنْ قِيلَ : قَوْلُهُ :﴿ وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ﴾ يَقْتَضِي جَوَازَهُ مَعَ تَرْكِهَا لِوُقُوعِ اسْمِ الْمُغْتَسِلِ عَلَيْهِ.
قِيلَ لَهُ : إذَا كَانَ قَوْلُهُ :﴿ فَاطَّهَّرُوا ﴾ يَقْتَضِي تَطْهِيرَ دَاخِلِ الْفَمِ وَالْأَنْفِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا اسْتِعْمَالُ الْآيَتَيْنِ عَلَى أَعَمِّهِمَا حُكْمًا وَأَكْثَرُهُمَا فَائِدَةً، وَغَيْرُ جَائِزٍ الِاقْتِصَارُ بِهِمَا عَلَى أَخَصِّهِمَا حُكْمًا ؛ إذْ فِيهِ تَخْصِيصٌ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ يُسَمَّى مُغْتَسِلًا أَيْضًا ؟ فَلَيْسَ فِي ذِكْرِهِ الِاغْتِسَالَ نَفْيٌ لِمُقْتَضَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ﴾.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ