قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْهَدْيَ لَا يُجْزِي إلَّا بِمَكَّةَ، وَأَنَّ بُلُوغَهُ الْكَعْبَةَ أَنْ يَذْبَحَهُ هُنَاكَ فِي الْحَرَمِ، وَأَنَّهُ لَوْ هَلَكَ بَعْدَ دُخُولِهِ الْحَرَمَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَهُ أَنَّ عَلَيْهِ هَدْيًا آخَرَ غَيْرَهُ.
وَقَالَ أَصْحَابُنَا : إذَا ذَبَحَهُ فِي الْحَرَمِ بَعْدَ بُلُوغِ الْكَعْبَةِ فَإِنْ سُرِقَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ تَعَيَّنَتْ فِيهِ بِالذَّبْحِ، فَصَارَ كَمَنْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهَذَا اللَّحْمِ، فَسُرِقَ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ الصَّوْمِ فِي غَيْرِ مَكَّةَ، وَاخْتَلَفُوا فِي الطَّعَامِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا :( يَجُوزُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ حَيْثُ شَاءَ ) ؛ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ :( لَا يُجْزِي إلَّا أَنْ يُعْطِيَ مَسَاكِينَ مَكَّةَ ).
وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ حَيْثُ شَاءَ قَوْله تَعَالَى :﴿ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ ﴾ وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي سَائِرِهِمْ، وَغَيْرُ جَائِزٍ تَخْصِيصُهُ بِمَكَانٍ إلَّا بِدَلَالَةٍ، وَمَنْ قَصَرَهُ عَلَى مَسَاكِينِ مَكَّةَ فَقَدْ خَصَّ الْآيَةَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ.
وَأَيْضًا لَيْسَ فِي الْأُصُولِ صَدَقَةٌ مَخْصُوصَةٌ بِمَكَانٍ لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا فِي غَيْرِهِ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ صَدَقَةً وَجَبَ جَوَازُهَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ قِيَاسًا عَلَى نَظَائِرِهَا مِنْ الصَّدَقَاتِ ؛ وَلِأَنَّ تَخْصِيصَهُ بِمَكَانٍ خَارِجٌ عَنْ الْأُصُولِ، وَمَا خَرَجَ عَنْ الْأُصُولِ وَظَاهِرِ الْكِتَابِ مِنْ الْأَقَاوِيلِ فَهُوَ سَاقِطٌ مَرْذُولٌ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَالْهَدْيُ سَبِيلُهُ الصَّدَقَةُ وَهُوَ مَخْصُوصٌ بِالْحَرَمِ قِيلَ لَهُ : ذَبْحُهُ مَخْصُوصٌ بِالْحَرَمِ، فَأَمَّا الصَّدَقَةُ فَحَيْثُ شَاءَ ؛ وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ لَوْ ذَبَحَهُ فِي الْحَرَمِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ فَتَصَدَّقَ بِهِ فِي غَيْرِهِ أَجْزَأَهُ وَأَيْضًا لَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ الصِّيَامِ فِي غَيْرِ مَكَّةَ وَهُوَ جَزَاءٌ لِلصَّيْدِ وَلَيْسَ بِذَبْحٍ، وَجَبَ مِثْلُهُ فِي الطَّعَامِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ.


الصفحة التالية
Icon