قَوْله تَعَالَى :﴿ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ﴾ يُقَالُ إنَّ الْإِدْرَاكَ أَصْلُهُ اللُّحُوقُ، نَحْوُ قَوْلِك : أَدْرَكَ زَمَانَ الْمَنْصُورِ، وَأَدْرَكَ أَبَا حَنِيفَةَ، وَأَدْرَكَ الطَّعَامَ أَيْ لَحِقَ حَالَ النُّضْجِ، وَأَدْرَكَ الزَّرْعَ وَالثَّمَرَةَ، وَأَدْرَكَ الْغُلَامَ إذَا لَحِقَ حَالَ الرِّجَالِ وَإِدْرَاكُ الْبَصَرِ لِلشَّيْءِ لُحُوقُهُ لَهُ بِرُؤْيَتِهِ إيَّاهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : أَدْرَكْت بِبَصَرِي شَخْصًا مَعْنَاهُ رَأَيْته بِبَصَرِي، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِدْرَاكُ الْإِحَاطَةَ لِأَنَّ الْبَيْتَ مُحِيطٌ بِمَا فِيهِ وَلَيْسَ مُدْرِكًا لَهُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ﴾ مَعْنَاهُ : لَا تَرَاهُ الْأَبْصَارُ، وَهَذَا تَمَدُّحٌ بِنَفْيِ رُؤْيَةِ الْأَبْصَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ﴾ وَمَا تَمَدَّحَ اللَّهُ بِنَفْيِهِ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّ إثْبَاتَ ضِدِّهِ ذَمٌّ وَنَقْصٌ، فَغَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُ نَقِيضِهِ بِحَالٍ، كَمَا لَوْ بَطَلَ اسْتِحْقَاقُ الصِّفَةِ بِ ﴿ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ﴾ لَمْ يَبْطُلْ إلَّا إلَى صِفَةِ نَقْصٍ، فَلَمَّا تَمَدَّحَ بِنَفْيِ رُؤْيَةِ الْبَصَرِ عَنْهُ لَمْ يَجُزْ إثْبَاتُ ضِدِّهِ وَنَقِيضِهِ بِحَالٍ ؛ إذْ كَانَ فِيهِ إثْبَاتُ صِفَةِ نَقْصٍ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ لِأَنَّ النَّظَرَ مُحْتَمِلٌ لِمَعَانٍ، مِنْهُ انْتِظَارُ الثَّوَابِ كَمَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُحْتَمِلًا لِلتَّأْوِيلِ لَمْ يَجُزْ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ بِمَا لَا مَسَاغَ لِلتَّأْوِيلِ فِيهِ.
وَالْأَخْبَارُ الْمَرْوِيَّةُ فِي الرُّؤْيَةِ إنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا الْعِلْمُ لَوْ صَحَّتْ، وَهُوَ عِلْمُ الضَّرُورَةِ الَّذِي لَا تَشُوبُهُ شُبْهَةٌ وَلَا تَعْرِضُ فِيهِ الشُّكُوكُ ؛ لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ مَشْهُورَةٌ فِي اللُّغَةِ.


الصفحة التالية
Icon