قَوْله تَعَالَى :﴿ قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ ﴾ الْآيَةُ رُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَسْتَحِلُّونَ أَشْيَاءَ وَيُحَرِّمُونَ أَشْيَاءَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا ﴾ مِمَّا تَسْتَحِلُّونَ ﴿ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً ﴾ الْآيَةُ وَسِيَاقَةُ الْمُخَاطَبَةِ تَدُلُّ عَلَى مَا قَالَ طَاوُسٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ قَدَّمَ ذِكْرَ مَا كَانُوا يُحَرِّمُونَ مِنْ الْأَنْعَامِ وَذَمَّهُمْ عَلَى تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّهُ وَعَنَّفَهُمْ وَأَبَانَ بِهِ عَنْ جَهْلِهِمْ لِأَنَّهُمْ حَرَّمُوا بِغَيْرِ حُجَّةٍ، ثُمَّ عَطَفَ قَوْله تَعَالَى :﴿ قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا ﴾ يَعْنِي تُحَرِّمُونَهُ إلَّا مَا ذُكِرَ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ تَقْدِيرَ الْآيَةِ لَمْ يَجُزْ الِاسْتِدْلَال بِهَا عَلَى إبَاحَةِ مَا خَرَجَ عَنْ الْآيَةِ.
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ ذُكِرَ فِي أَوَّلِ الْمَائِدَةِ تَحْرِيمُ الْمُنْخَنِقَةِ وَالْمَوْقُوذَةِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُمَا، وَهِيَ خَارِجَةٌ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ قِيلَ لَهُ : فِي ذَلِكَ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُنْخَنِقَةَ وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا قَدْ دَخَلَتْ فِي الْمَيْتَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى تَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ فِي قَوْلِهِ :﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ ﴾ ثُمَّ فَسَرَّ وُجُوهَهَا وَالْأَسْبَابَ الْمُوجِبَةَ لِكَوْنِهَا مَيْتَةً فَقَدْ اشْتَمَلَ اسْمُ الْمَيْتَةِ عَلَى الْمُنْخَنِقَةِ وَنَظَائِرِهَا.
وَالثَّانِي : أَنَّ سُورَةَ الْأَنْعَامِ مَكِّيَّةٌ، وَجَائِزٌ أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ حَرَّمَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إلَّا مَا قَدْ ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْمَائِدَةُ مَدَنِيَّةٌ وَهِيَ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ( أَوْ ) إذَا دَخَلَتْ عَلَى النَّفْيِ ثَبَتَ كُلُّ وَاحِدٍ مِمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ عَلَى حِيَالِهِ وَأَنَّهَا لَا تَقْتَضِي تَخْيِيرًا ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى :﴿ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ ﴾ قَدْ أَوْجَبَ تَحْرِيمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى حِيَالِهِ.