بُرْدَةَ قَدْ كَانَ أَوْجَبَ الْأُضْحِيَّةَ نَذْرًا، فَأَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ، فَإِذًا لَيْسَ فِيمَا خَاطَبَ بِهِ أَبَا بُرْدَةَ دَلَالَةٌ عَلَى الْوُجُوبِ ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ فِي شَخْصٍ مُعَيَّنٍ لَيْسَ بِعُمُومِ لَفْظٍ فِي إيجَابِهَا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ.
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ أَرَادَ الْقَضَاءَ عَنْ وَاجِبٍ لَسَأَلَهُ عَنْ قِيمَتِهِ لِيُوجِبَ عَلَيْهِ مِثْلَهُ.
قِيلَ لَهُ : قَدْ قَالَ أَبُو بُرْدَةَ :" إنَّ عِنْدِي جَذَعَةً خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ " فَكَانَتْ الْجَذَعَةُ خَيْرًا مِنْ الْأُولَى.
وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى الْوُجُوبِ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى لُزُومِهَا بِالنَّذْرِ، فَلَوْلَا أَنَّ لَهَا أَصْلًا فِي الْوُجُوبِ لَمَا لَزِمَتْ بِالنَّذْرِ، كَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ فِي الْوُجُوبِ فَلَا تَلْزَمُ بِالنَّذْرِ.
وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ لِلْوُجُوبِ مَا رَوَى جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ :" نَسَخَتْ الْأُضْحِيَّةُ كُلَّ ذَبْحٍ كَانَ قَبْلَهَا، وَنَسَخَتْ الزَّكَاةُ كُلَّ زَكَاةٍ كَانَتْ قَبْلَهَا، وَنَسَخَ صَوْمُ رَمَضَانَ كُلَّ صَوْمٍ كَانَ قَبْلَهُ، وَنَسَخَ غُسْلُ الْجَنَابَةِ كُلَّ غُسْلٍ كَانَ قَبْلَهُ "، قَالُوا : فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْأَضْحَى ؛ لِأَنَّهُ نُسِخَ بِهِ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَلَا يَكُونُ الْمَنْسُوخُ بِهِ إلَّا وَاجِبًا، أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ مَا ذَكَرَهُ أَنَّهُ نَاسِخٌ لِمَا قَبْلَهُ فَهُوَ فَرْضٌ أَوْ وَاجِبٌ ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا عِنْدِي لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ ؛ لِأَنَّ نَسْخَ الْوَاجِبِ هُوَ بَيَانُ مُدَّةِ الْوُجُوبِ، فَإِذَا بَيَّنَ بِالنَّسْخِ أَنَّ مُدَّةَ الْإِيجَابِ كَانَتْ إلَى هَذَا الْوَقْتِ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مَا يَقْتَضِي إيجَابَ شَيْءٍ آخَرَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ قَدْ نُسِخَتْ عَنْكُمْ الْعَتِيرَةُ وَالْعَقِيقَةُ وَسَائِرُ الذَّبَائِحِ الَّتِي كَانَتْ تُفْعَلُ لَمْ تَكُنْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ ذَبِيحَةٍ أُخْرَى ؟ فَلَيْسَ إذًا فِي قَوْلِهِ :" نَسَخَتْ الْأُضْحِيَّةُ كُلَّ ذَبِيحَةٍ كَانَتْ قَبْلَهَا " دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ، وَإِنَّمَا فَائِدَةُ ذِكْرِ النَّسْخِ فِي