الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالسِّتُّونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ فِيهَا سِتَّ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَهِيَ آيَةٌ عَظِيمَةُ الْمَوْقِعِ جِدًّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حُكْمٌ كَبِيرٌ اخْتَلَفَ فِيهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ، وَدَقَّتْ مَدَارِكُهَا حَسْبَمَا تَرَوْنَهَا مِنْ جُمْلَتِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ :" كَانَ إيلَاءُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَوَفَّتْ لَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ " ؛ فَمَنْ آلَى أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَلَيْسَ بِإِيلَاءٍ حُكْمِيٍّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْإِيلَاءُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ هُوَ الْحَلِفُ، وَالْفَيْءُ هُوَ الرُّجُوعُ، وَالْعَزْمُ هُوَ تَجْرِيدُ الْقَلْبِ عَنْ الْخَوَاطِرِ الْمُتَعَارِضَةِ فِيهِ إلَى وَاحِدٍ مِنْهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : نَظْمُ الْآيَةِ : لِلَّذِينَ يَعْتَزِلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ بِالْأَلِيَّةِ، فَكَانَ مِنْ عَظِيمِ الْفَصَاحَةِ أَنْ اُخْتُصِرَ، وَحُمِّلَ آلَى مَعْنَى اعْتَزَلَ النِّسَاءَ بِالْأَلِيَّةِ حَتَّى سَاغَ لُغَةَ أَنْ يَتَّصِلَ آلَى بِقَوْلِك مِنْ، وَنَظْمُهُ فِي الْإِطْلَاقِ أَنْ يَتَّصِلَ بِآلَى قَوْلُك عَلَى، تَقُولُ الْعَرَبُ : اعْتَزَلْت مِنْ كَذَا وَعَنْ كَذَا، وَآلَيْت وَحَلَفَتْ عَلَى كَذَا، وَكَذَلِكَ عَادَةُ الْعَرَبِ أَنْ تَحْمِلَ مَعَانِيَ الْأَفْعَالِ عَلَى الْأَفْعَالِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الِارْتِبَاطِ وَالِاتِّصَالِ، وَجَهِلَتْ النَّحْوِيَّةُ هَذَا فَقَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ : إنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ يُبْدَلُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، وَيَحْمِلُ بَعْضُهَا مَعَانِيَ الْبَعْضِ، فَخَفِيَ عَلَيْهِمْ وَضْعُ فِعْلٍ مَكَانَ فِعْلٍ، وَهُوَ أَوْسَعُ وَأَقْيَسُ، وَلَجُّوا بِجَهْلِهِمْ إلَى الْحُرُوفِ الَّتِي يَضِيقُ فِيهَا نِطَاقُ [ الْكَلَامِ ] وَالِاحْتِمَالِ.