فِي زَمَانِنَا فِي مَحْجُورَةٍ أَرَادَتْ نِحْلَةَ ابْنَتَهَا بِمَالٍ لَا تُنْكَحُ إلَّا بِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَجُوزُ فِعْلُ الْمَحْجُورِ، وَقُلْنَا نَحْنُ : يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ إينَاسَ الرُّشْدِ إنَّمَا يَكُونُ بِمِثْلِ هَذَا ؛ وَمَنْ نَظَرَ لِوَلَدِهِ وَاهْتَبَلَ بِهِ فَهُوَ فِي غَايَةِ السَّدَادِ وَالرُّشْدِ لَهُ وَلِنَفْسِهِ، فَوَفَّقَ اللَّهُ مُتَوَلِّي الْحُكْمِ يَوْمَئِذٍ وَأَمْضَى النِّحْلَةَ عَلَى مَا أَفْتَيْنَاهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى ﴿ وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ﴾ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ شَيْئًا بِحَالٍ، وَهَذِهِ الرُّخْصَةُ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ :﴿ فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا ﴾ وَاخْتَارَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَاحْتَجَّ بِهِ.
الثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْيَتِيمُ، وَإِذَا كَانَ فَقِيرًا أَنْفَقَ عَلَيْهِ وَإِلَيْهِ بِقَدْرِ فَقْرِهِ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا أَنْفَقَ عَلَيْهِ بِقَدْرِ غِنَاهُ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ فِيهِ شَيْءٌ.
الثَّالِثُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْوَلِيُّ إنْ كَانَ غَنِيًّا عَفَّ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا أَكَلَ بِالْمَعْرُوفِ.
الرَّابِعُ : أَنَّ الْمَعْرُوفَ شُرْبُهُ اللَّبَنَ وَرُكُوبُهُ الظَّهْرَ غَيْرَ مُضِرٍّ بِنَسْلٍ وَلَا نَاهِكٍ فِي حَلْبٍ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : أَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ مَنْسُوخٌ فَهُوَ بَعِيدٌ، لَا أَرْضَاهُ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ :﴿ فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ وَهُوَ الْجَائِزُ الْحَسَنُ ؛ وَقَالَ :﴿ إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا ﴾ فَكَيْف يَنْسَخُ الظُّلْمُ الْمَعْرُوفَ ؟ بَلْ هُوَ تَأْكِيدٌ لَهُ فِي التَّجْوِيزِ ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْهُ مُغَايِرٌ لَهُ ؛ وَإِذَا كَانَ الْمُبَاحُ غَيْرَ الْمَحْظُورِ لَمْ يَصِحَّ دَعْوَى نَسْخٍ فِيهِ ؛ وَهَذَا أَبْيَنُ مِنْ الْإِطْنَابِ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْيَتِيمُ فَلَا يَصِحُّ لِوَجْهَيْنِ :