الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : تَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ : يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ ؛ لِأَنَّهُ نَفْسٌ بِنَفْسٍ.
قَالَتْ لَهُ الشَّافِعِيَّةُ : هَذَا خَبَرٌ عَنْ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا لَيْسَ شَرْعًا لَنَا.
وَقُلْنَا نَحْنُ لَهُ : هَذِهِ الْآيَةُ، إنَّمَا جَاءَتْ لِلرَّدِّ عَلَى الْيَهُودِ فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْقَبَائِلِ وَأَخْذِهِمْ مِنْ قَبِيلَةٍ رَجُلًا بِرَجُلٍ، وَنَفْسًا بِنَفْسٍ، وَأَخْذِهِمْ مِنْ قَبِيلَةٍ أُخْرَى نَفْسَيْنِ بِنَفْسٍ، فَأَمَّا اعْتِبَارُ أَحْوَالِ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ بِالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ فَلَيْسَ لَهُ تَعَرُّضٌ فِي ذَلِكَ، وَلَا سِيقَتْ الْآيَةُ لَهُ، وَإِنَّمَا تُحْمَلُ الْأَلْفَاظُ عَلَى الْمَقَاصِدِ.
جَوَابٌ آخَرُ : وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا عُمُومٌ يَدْخُلُهُ التَّخْصِيصُ بِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَبَعْضُهُمْ أَوْعَبُ مِنْ بَعْضٍ ؛ ﴿ عَنْ عَلِيٍّ، وَقَدْ سُئِلَ : هَلْ خَصَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ ؟ قَالَ : لَا، إلَّا مَا فِي هَذَا، وَأَخْرَجَ كِتَابًا مِنْ قِرَابِ سَيْفِهِ، وَإِذَا فِيهِ : الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، أَلَا لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ ﴾.
جَوَابٌ ثَالِثٌ : وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ :﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ﴾.
وَقَالَ :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ﴾ فَاقْتَضَى لَفْظُ الْقِصَاصِ الْمُسَاوَاةَ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَكَافِر ؛ لِأَنَّ نَقْصَ الْكُفْرِ الْمُبِيحِ لِلدَّمِ مَوْجُودٌ بِهِ، فَلَا تَسْتَوِي نَفْسٌ مُبِيحُهَا مَعَهَا مَعَ نَفْسٍ قَدْ تَطَهَّرَتْ عَنْ الْمُبِيحَاتِ، وَاعْتَصَمَتْ بِالْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى الْعِصَمِ.
وَقَدْ ذَكَر بَعْضُ عُلَمَائِنَا فِي ذَلِكَ نُكْتَةً حَسَنَةً، قَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ :﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ﴾، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ فَرَضَ عَلَيْهِمْ فِي مِلَّتِهِمْ أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ مِنْهُمْ تَعَادُلُ نَفْسًا ؛