الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْلُهُ ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ : الْمَعْنَى : إنْ خِفْتُمْ الْفَقْرَ بِانْقِطَاعِ مَادَّةِ الْمُشْرِكِينَ عَنْكُمْ بِالتِّجَارَةِ الَّتِي كَانُوا يَجْلِبُونَهَا فَإِنَّ اللَّهَ يُعَوِّضُ عَنْهَا ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تَعَلُّقَ الْقَلْبِ بِالْأَسْبَابِ فِي الرِّزْقِ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ الرِّزْقُ مَقْدُورًا، وَأَمْرُ اللَّهِ وَقَسْمُهُ لَهُ مَفْعُولًا، وَلَكِنَّهُ عَلَّقَهُ بِالْأَسْبَابِ حِكْمَةً ؛ لِتَعْلَمَ الْقُلُوبُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْأَسْبَابِ مِنْ الْقُلُوبِ الَّتِي تَتَوَكَّلُ عَلَى رَبِّ الْأَرْبَابِ، وَلَيْسَ يُنَافِي النَّظَرَ إلَى السَّبَبِ التَّوَكُّلُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُسَخَّرٌ مَقْدُورٌ ؛ وَإِنَّمَا يُضَادُّ التَّوَكُّلَ النَّظَرُ إلَيْهِ بِذَاتِهِ، وَالْغَفْلَةُ عَنْ الَّذِي سَخَّرَهُ فِي أَرْضِهِ وَسَمَاوَاتِهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ :﴿ لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا ﴾.
فَأَخْبَرَ أَنَّ التَّوَكُّلَ الْحَقِيقِيَّ لَا يُضَادُّهُ الْغُدُوُّ وَالرَّوَاحُ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ، لَكِنَّ شُيُوخَ الصُّوفِيَّةِ قَالُوا : إنَّمَا تَغْدُو وَتَرُوحُ فِي الطَّاعَةِ، فَهُوَ السَّبَبُ الَّذِي يَجْلِبُ الرِّزْقَ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَمْرَانِ : قَوْلُهُ :﴿ وَأْمُرْ أَهْلَك بِالصَّلَاةِ ﴾.
وَالثَّانِي قَوْلُهُ :﴿ إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾ فَلَيْسَ يَنْزِلُ الرِّزْقُ مِنْ مَحِلِّهِ وَهُوَ السَّمَاءُ إلَّا مَا يَصْعَدُ إلَيْهَا وَهُوَ الذِّكْرُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَلَيْسَ بِالسَّعْيِ فِي جِهَاتِ الْأَرْضِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا رِزْقٌ.
وَالصَّحِيحُ مَا أَحْكَمَتْهُ السُّنَّةُ عِنْدَ فُقَهَاءِ الظَّاهِرِ، وَهُوَ الْعَمَلُ بِالْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِنْ الْحَرْثِ وَالتِّجَارَةِ وَالْغِرَاسَةِ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا كَانَتْ الصَّحَابَةُ تَعْمَلُهُ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ مِنْ التِّجَارَةِ فِي الْأَسْوَاقِ، وَالْعِمَارَةِ لِلْأَمْوَالِ، وَغَرْسِ