عَلَى مَا لَيْسَ بِفَرْضٍ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ وَجَدْنَا وَجْهًا لِلْقِرَاءَةِ مَعَ الْجَهْرِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْقَلْبِ بِالتَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ، وَهَذَا نِظَامُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَحِفْظُ الْعِبَادَةِ، وَمُرَاعَاةُ السُّنَّةِ، وَعَمَلٌ بِالتَّرْجِيحِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ؛ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَاذْكُرْ رَبَّك فِي نَفْسِك تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ ﴾.
وَهِيَ : الْآيَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ فَقَوْلُهُ :﴿ فِي نَفْسِك ﴾ يَعْنِي صَلَاةَ الْجَهْرِ.
وَقَوْلُهُ :﴿ وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ ﴾ يَعْنِي صَلَاةَ السِّرِّ فَإِنَّهُ يَسْمَعُ فِيهِ نَفْسَهُ وَمَنْ يَلِيه قَلِيلًا بِحَرَكَةِ اللِّسَانِ.
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ : إنَّمَا خَرَجَتْ الْآيَةُ عَلَى سَبَبٍ ؛ وَهُوَ أَنَّ قَوْمًا كَانُوا يُكْثِرُونَ اللَّغَطَ فِي قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَيَمْنَعُونَ مِنْ اسْتِمَاعِ الْأَحْدَاثِ لَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾، فَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِالْإِنْصَاتِ حَالَةَ أَدَاءِ الْوَحْيِ، لِيَكُونَ عَلَى خِلَافِ حَالِ الْكُفَّارِ.
قُلْنَا : عَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهُ ؛ فَلَا يَنْفَعُ مُعْتَمَدُهُ.
الثَّانِي : أَنَّ سَبَبَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ إذَا كَانَ خَاصًّا لَا يَمْنَعُ مِنْ التَّعَلُّقِ بِظَاهِرِهِ إذَا كَانَ عَامًّا مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَيْسَ لِلْبُخَارِيِّ وَلَا لِلشَّافِعِيَّةِ كَلَامٌ يَنْفَعُ بَعْدَمَا رَجَّحْنَا بِهِ وَاحْتَجَجْنَا بِمَنْصُوصِهِ، وَقَدْ مَهَّدْنَا الْقَوْلَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ تَمْهِيدًا يُسَكِّنُ كُلَّ جَأْشٍ نَافِرٍ.