يُرِيدُ بِهِ النَّبِيءَ الَّذِي قَالَ فِيهِ الشَّاعِرُ : فَأَصْبَحَ رَتْمًا دُقَاقَ الْحَصَى مَكَانَ النَّبِيءِ مِنْ الْكَاثِبِ وَلِذَلِكَ يُحْكَى عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ مِنْ زَمَنِ فِتْنَةِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَلَى خَلْقِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ دُعِيَ إلَى أَنْ يَقُولَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ : الْقُرْآنُ وَالتَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ يُعَدِّدُهُنَّ بِيَدِهِ هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ مَخْلُوقَةٌ، يَقْصِدُ هُوَ بِقَلْبِهِ أَصَابِعَهُ الَّتِي عَدَّدَ بِهَا، وَفَهِمَ الَّذِي أَكْرَهَهُ أَنَّهُ يُرِيدُ الْكُتُبَ الْأَرْبَعَةَ الْمُنَزَّلَةَ مِنْ اللَّهِ عَلَى أَنْبِيَائِهِ، فَخَلَصَ فِي نَفْسِهِ، وَلَمْ يَضُرَّهُ فَهْمُ الَّذِي أَكْرَهَهُ.
وَلَمَّا كَانَ هَذَا أَمْرًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ، مَشْهُورًا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَلَّفَ فِي ذَلِكَ شَيْخُ اللُّغَةِ وَرَئِيسُهَا أَبُو بَكْرِ بْنُ دُرَيْدٍ كِتَابَ الْمَلَاحِنِ لِلْمُكْرَهِينَ، فَجَاءَ بِبِدَعٍ فِي الْعَالَمِينَ، ثُمَّ رَكَّبَ عَلَيْهِ الْمُفْجِعَ الْكَابِتَ، فَجَمَعَ فِي ذَلِكَ مَجْمُوعًا وَافِرًا حَسَنًا، اسْتَوْلَى فِيهِ عَلَى الْأَمَدِ، وَقَرْطَسَ الْغَرَضَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ لَيْسَ بِقَبِيحٍ لِعَيْنِهِ وَذَاتِهِ ؛ إذْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا حَسَّنَهُ الْإِكْرَاهُ، وَلَكِنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْأَشْيَاءَ لَا تَقْبُحُ لِذَوَاتِهَا وَلَا تَحْسُنُ لِذَوَاتِهَا ؛ وَإِنَّمَا تَقْبُحُ وَتَحْسُنُ بِالشَّرْعِ ؛ فَالْقَبِيحُ مَا نَهَى الشَّرْعُ عَنْهُ، وَالْحَسَنُ مَا أَمَرَ الشَّرْعُ بِهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ أَنَّ الْقَتْلَ الْوَاقِعَ اعْتِدَاءً يُمَاثِلُ الْقَتْلَ الْمُسْتَوْفَى قِصَاصًا فِي الصُّورَةِ وَالصِّفَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْغَافِلَ عَنْ سَبَبِهِمَا لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ الْإِيلَاجُ فِي الْفَرْجِ عَنْ نِكَاحٍ، يُمَاثِلُ الْإِيلَاجَ عَنْ سِفَاحٍ فِي اللَّذَّاتِ وَالْحَرَكَاتِ، إنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْإِذْنُ ؛ وَكَذَلِكَ الْكُفْرُ الَّذِي يَصْدُرُ عَنْ الْإِكْرَاهِ يُمَاثِلُ الصَّادِرَ عَنْ الِاخْتِيَارِ ؛ وَلَكِنْ فَرَّقَ