الْآيَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَيَسْأَلُونَك عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إلَّا قَلِيلًا ﴾.
قَدْ أَطَلْنَا النَّفَسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي كِتَابِ الْمُشْكَلَيْنِ وَشَرْحِ الصَّحِيحِ بِمَا يَقِفُ بِكُمْ فِيهَا عَلَى الْمَعْرِفَةِ، فَأَمَّا الْآنَ فَخُذُوا نَبْذَةً تُشْرِفُ بِكُمْ عَلَى الْغَرَضِ : ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرِيقِ ﴿ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ قَالَ بَيْنَا أَنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرْثٍ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى عَسِيبٍ إذْ مَرَّ الْيَهُودُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : سَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ.
فَقَالَ : مَا رَابَكُمْ إلَيْهِ ؟ لَا يَسْتَقْبِلْنَكُمْ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ.
قَالُوا : سَلُوهُ، فَسَأَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ، فَأَمْسَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا فَعَلِمْت أَنَّهُ يُوحَى إلَيْهِ، فَقُمْت مَقَامِي، فَلَمَّا نَزَلَ الْوَحْيُ قَالَ : يَسْأَلُونَكَ عَنْ " الرُّوحِ " الْآيَةَ ﴾
.
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ : لَمْ يَأْتِهِ فِي ذَلِكَ جَوَابٌ، وَقَدْ قَالَ بَكْرُ بْنُ مُضَرَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ : إنَّ الْيَهُودَ قَالُوا : سَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ، فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ فَلَيْسَ بِنَبِيٍّ، وَإِنْ لَمْ يُخْبِرْكُمْ فَهُوَ نَبِيٌّ، فَسَأَلُوهُ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ.
وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَتَكَلَّمُونَ مَعَ الْخَلْقِ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ، وَلَا يُفِيضُونَ مَعَهُمْ فِي الْمُشْكِلَاتِ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُونَ فِي الْبَيِّنِ مِنْ الْأُمُورِ الْمَعْقُولَاتِ، وَالرُّوحُ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى جَعَلَهُ اللَّهُ فِي الْأَجْسَامِ، فَأَحْيَاهَا بِهِ، وَعَلِمَهَا وَأَقْدَرَهَا، وَبَنَى عَلَيْهَا الصِّفَاتِ الشَّرِيفَةَ، وَالْأَخْلَاقَ الْكَرِيمَةَ، وَقَابَلَهَا بِأَضْدَادِهَا لِنُقْصَانِ الْآدَمِيَّةِ، فَإِذَا أَرَادَ الْعَبْدُ إنْكَارَهَا لَمْ يَقْدِرْ لِظُهُورِ آثَارِهَا، وَإِذَا أَرَادَ مَعْرِفَتَهَا وَهِيَ بَيْنَ جَنْبَيْهِ لَمْ يَسْتَطِعْ ؟ ؛ لِأَنَّهُ قَصُرَ عَنْهَا وَقَصُرَ بِهِ دُونَهَا.


الصفحة التالية
Icon