الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ :﴿ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ﴾ : الْحُكْمُ هُوَ الْعَمَلُ بِالْعِلْمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَعْنَى تَرْتِيبِ " حُكْمٍ ".
وَالْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْعِلْمِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَمَا قَبْلَهُ فِي زَمَانِ عَدَمِ التَّكْلِيفِ فَإِنَّهُ فِيهِ مَعْدُومٌ إلَّا فِي النَّادِرِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي يَحْيَى بْن زَكَرِيَّا :﴿ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ﴾.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : قِيلَ لَهُ، وَهُوَ صَغِيرٌ : أَلَا تَذْهَبُ تَلْعَبُ ؟ قَالَ : مَا خُلِقْت لِلَّعِبِ.
وَهَذَا إنَّمَا بَيَّنَ اللَّهُ بِهِ حَالَ يُوسُفَ مِنْ حِينِ بُلُوغِهِ بِأَنَّهُ آتَاهُ الْعِلْمَ، وَآتَاهُ الْعَمَلَ بِمَا عَلِمَ ؛ وَخَبَرُ اللَّهِ صَادِقٌ، وَوَصْفُهُ صَحِيحٌ، وَكَلَامُهُ حَقٌّ، فَقَدْ عَمِلَ يُوسُفُ بِمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْ تَحْرِيمِ الزِّنَا وَتَحْرِيمِ خِيَانَةِ السَّيِّدِ أَوْ الْجَارِ أَوْ الْأَجْنَبِيِّ فِي أَهْلِهِ، فَمَا تَعَرَّضَ لِامْرَأَةِ الْعَزِيزِ، وَلَا أَنَابَ إلَى الْمُرَاوَدَةِ [ بِحُكْمِ الْمُرَاوَدَةِ ] ؛ بَلْ أَدْبَرَ عَنْهَا، وَفَرَّ مِنْهَا ؛ حِكْمَةٌ خُصَّ بِهَا، وَعَمَلًا بِمُقْتَضَى مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ؛ وَهَذَا يَطْمِسُ وُجُوهَ الْجَهَلَةِ مِنْ النَّاسِ وَالْغَفَلَةِ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي نِسْبَتِهِمْ إلَيْهِ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَأَقَلُّ مَا اقْتَحَمُوا مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ هَتَكَ السَّرَاوِيلَ، وَهَمَّ بِالْفَتْكِ فِيمَا رَأَوْهُ مِنْ تَأْوِيلٍ، وَحَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْت عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ، بَلْ أُبَرِّئُهُ مِمَّا بَرَّأَهُ مِنْهُ، فَقَالَ :﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ﴾، كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الَّذِينَ اسْتَخْلَصْنَاهُمْ.
وَالْفَحْشَاءُ هِيَ الزِّنَا وَالسُّوءُ هُوَ الْمُرَاوَدَةُ وَالْمُغَازَلَةُ، فَمَا أَلَمَّ بِشَيْءٍ وَلَا أَتَى بِفَاحِشَةٍ.
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ اللَّهُ :﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ﴾.
قُلْنَا : قَدْ تَقَصَّيْنَا عَنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ شَرْحِ الْمُشْكِلَيْنِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ اللَّهَ [ سُبْحَانَهُ ] مَا