الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : لَمَّا وَصَفَ اللَّهُ الْمَاءَ بِأَنَّهُ طَهُورٌ، وَامْتَنَّ بِإِنْزَالِهِ مِنْ السَّمَاءِ لِيُطَهِّرَنَا بِهِ دَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ قَالَ لِأَسْمَاءِ بِنْتِ الصِّدِّيقِ فِي دَمِ الْحَيْضِ يُصِيبُ الثَّوْبَ :﴿ حُتِّيهِ ثُمَّ اُقْرُصِيهِ، ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ ﴾، فَلِذَلِكَ لَمْ يَلْحَقْ غَيْرُ الْمَاءِ بِالْمَاءِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا فِي ذَلِكَ مِنْ إبْطَالِ فَائِدَةِ الِامْتِنَانِ.
وَالثَّانِي : لِأَنَّ غَيْرَ الْمَاءِ لَيْسَ بِمُطَهِّرٍ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَالْجَنَابَةَ، فَلَا يُزِيلُ النَّجَسَ.
وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ : إنَّ كُلَّ مَائِعٍ طَاهِرٍ يُزِيلُ النَّجَاسَةَ، وَهَذَا غَلَطٌ ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنْ نَفْسِهِ فَكَيْفَ يَدْفَعُهَا عَنْ غَيْرِهِ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ النَّجَاسَةَ الْقَلِيلَةَ إذَا وَقَعَتْ فِي الزَّيْتِ الْكَثِيرِ لَمْ يُنَجَّسْ إذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ.
وَهَذِهِ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهَا " لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ ﴿ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ سَقَطَتْ فِي سَمْنٍ، فَقَالَ : إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ ﴾.
وَفِي رِوَايَةٍ :﴿ وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَأَرِيقُوهُ ﴾.
وَقَوْلُهُ :﴿ إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا ﴾ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا تُفْسِدُ الْمَائِعَ ؛ لِأَنَّهُ عُمُومٌ سُئِلَ عَنْهُ، فَخَصَّ أَحَدَ صِنْفَيْهِ بِالْجَوَازِ، وَبَقِيَ الْآخَرُ عَلَى الْمَنْعِ.
وَلَيْسَ هَذَا بِدَلِيلِ الْخِطَابِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.
وَهَذِهِ نُكْتَةٌ بَدِيعَةٌ تَفْهَمُونَهَا، فَهِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ كِتَابٍ، وَلَيْسَتْ النَّجَاسَةُ مَعْنًى مَحْسُوسًا، حَتَّى يُقَالَ : كُلَّمَا أَزَالَهَا فَقَدْ قَامَ بِهِ الْفَرْضُ، وَإِنَّمَا النَّجَاسَةُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ عَيَّنَ لَهُ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ الْمَاءَ، فَلَا يَلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ، إذْ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَحِقَ بِهِ لَأَسْقَطَهُ، وَالْفَرْعُ إذَا عَادَ إلْحَاقُهُ بِالْأَصْلِ