الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى :﴿ وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴾ فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ :﴿ يُوزَعُونَ ﴾ يَعْنِي يَمْنَعُونَ وَيَدْفَعُونَ، وَيَرُدُّ أَوَّلُهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ، وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى يُلْهَمُونَ مِنْ قَوْلِهِ :﴿ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَك ﴾ أَيْ أَلْهِمْنِي.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْأُولَى، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ رُدَّنِي.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى أَشْهَبُ قَالَ : قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ : قَالَ عُثْمَانُ : مَا يَزَعُ النَّاسَ السُّلْطَانُ أَكْثَرَ مِمَّا يَزَعُهُمْ الْقُرْآنُ.
قَالَ مَالِكٌ : يَعْنِي يَكُفُّهُمْ.
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ مِثْلُهُ، وَزَادَ ثُمَّ تَلَا مَالِكٌ :﴿ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴾ أَيْ يُكَفُّونَ.
وَقَدْ جَهِلَ قَوْمٌ الْمُرَادَ بِهَذَا الْكَلَامِ، فَظَنُّوا أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ قُدْرَةَ السُّلْطَانِ تَرْدَعُ النَّاسَ أَكْثَرَ مِمَّا تَرْدَعُهُمْ حُدُودُ الْقُرْآنِ.
وَهَذَا جَهْلٌ بِاَللَّهِ وَحُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَوَضْعِهِ لِخَلْقِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ مَا وَضَعَ الْحُدُودَ إلَّا مَصْلَحَةً عَامَّةً كَافَّةً قَائِمَةً بِقِوَامِ الْحَقِّ، لَا زِيَادَةَ عَلَيْهَا وَلَا نُقْصَانَ مَعَهَا، وَلَا يَصْلُحُ سِوَاهَا، وَلَكِنَّ الظَّلَمَةَ خَاسُوا بِهَا، وَقَصَّرُوا عَنْهَا، وَأَتَوْا مَا أَتَوْا بِغَيْرِ نِيَّةٍ مِنْهَا، وَلَمْ يَقْصِدُوا وَجْهَ اللَّهِ فِي الْقَضَاءِ بِهَا ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ يَرْتَدِعْ الْخَلْقُ بِهَا.
وَلَوْ حَكَمُوا بِالْعَدْلِ ؛ وَأَخْلِصُوا النِّيَّةَ، لَاسْتَقَامَتْ الْأُمُورُ، وَصَلُحَ الْجُمْهُورُ ؛ وَقَدْ شَاهَدْتُمْ مِنَّا إقَامَةَ الْعَدْلِ وَالْقَضَاءَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ بِالْحَقِّ، وَالْكَفَّ لِلنَّاسِ بِالْقِسْطِ، وَانْتَشَرَتْ الْأَمَنَةُ، وَعَظُمَتْ الْمَنَعَةُ، وَاتَّصَلَتْ فِي الْبَيْضَةِ الْهُدْنَةُ، حَتَّى غَلَبَ قَضَاءُ اللَّهِ بِفَسَادِ الْحَسَدَةِ، وَاسْتِيلَاءِ الظَّلَمَةِ.


الصفحة التالية
Icon