الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ :﴿ وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ﴾ عَلَّقَ اللَّهُ عَلَى الْقَذْفِ ثَلَاثَةَ أَحْكَامٍ : الْحَدَّ، وَرَدَّ الشَّهَادَةِ، وَالتَّفْسِيقَ ؛ تَغْلِيظًا لِشَأْنِهِ، وَتَعْظِيمًا لِأَمْرِهِ، وَقُوَّةً فِي الرَّدْعِ عَنْهُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : رَدُّ الشَّهَادَةِ مِنْ جُمْلَةِ الْحَدِّ.
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : بَلْ رَدُّهَا مِنْ عِلَّةِ الْفِسْقِ، فَإِذَا زَالَ بِالتَّوْبَةِ زَالَ رَدُّ الشَّهَادَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ :﴿ إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ التَّوْبَةَ تُسْقِطُ الْفِسْقَ، وَاخْتَلَفُوا فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا تُقْبَلُ قَبْلَ الْحَدِّ وَبَعْدَ التَّوْبَةِ ؛ قَالَهُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَغَيْرُهَا مِنْ جُمْهُورِ النَّاسِ.
الثَّانِي : أَنَّهُ إذَا قَذَفَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَبَدًا، لَا قَبْلَ الْحَدِّ وَلَا بَعْدَهُ ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ شُرَيْحٍ.
الثَّالِثُ : أَنَّهَا تُقْبَلُ قَبْلَ الْحَدِّ، وَلَا تُقْبَلُ بَعْدَهُ ؛ وَإِنْ تَابَ ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ.
الرَّابِعُ : أَنَّهَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بَعْدَ الْحَدِّ، وَلَا تُقْبَلُ قَبْلَهُ ؛ وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ.
وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ طَوِيلَةٌ.
وَقَدْ حَقَقْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَأَوْضَحْنَا سَبِيلَ النَّحْوِ فِيهَا فِي كِتَابِ الْمُلْجِئَةِ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَجْعَلُ رَدَّ الشَّهَادَةِ مِنْ جُمْلَةِ الْحَدِّ، وَيَرَى أَنَّ قَبُولَ الشَّهَادَةِ وِلَايَةٌ قَدْ زَالَتْ بِالْقَذْفِ، وَجُعِلَتْ الْعُقُوبَةُ فِيهَا فِي مَحَلِّ الْجِنَايَةِ، وَهِيَ اللِّسَانُ تَغْلِيظًا لِأَمْرِهَا.
وَقُلْنَا نَحْنُ : إنَّهَا حُكْمٌ عِلَّتُهُ الْفِسْقُ، فَإِذَا زَالَتْ الْعِلَّةُ وَهِيَ الْفِسْقُ بِالتَّوْبَةِ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ، كَمَا فِي سَائِرِ الْمَعَاصِي.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ كَاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ ؛ فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ لِأَبِي بَكْرَةَ : تُبْ أَقْبَلْ شَهَادَتَكَ، فَيَقُولُ :