النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُشْبِعُهُ، وَلَا مِثْلَهُ مِنْ حَاشِيهِ وَنُظَرَائِهِ، فَسَوَّلَ لَهُ أَنْ يَتَّخِذَ مُدًّا يَكُونُ فِيهِ شِبَعُهُ، فَجَعَلَهُ رَطْلَيْنِ، وَحَمَلَ النَّاسَ عَلَيْهِ، فَإِذَا ابْتَلَّ عَادَ نَحْوَ ثَلَاثَةِ أَرْطَالٍ، فَغَيَّرَ السُّنَّةَ، وَأَذْهَبَ مَحَلَّ الْبَرَكَةِ.
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَعَا رَبَّهُ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ بِالْبَرَكَةِ لَهُمْ فِي مُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ : مِثْلَ مَا بَارَكَ لِإِبْرَاهِيمَ بِمَكَّةَ.
فَكَانَتْ الْبَرَكَةُ تَجْرِي بِدَعْوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُدِّهِ، فَسَعَى الشَّيْطَانُ فِي تَغْيِيرِ هَذِهِ السُّنَّةِ وَإِذْهَابِ الْبَرَكَةِ، فَلَمْ يَسْتَجِبْ لَهُ فِي ذَلِكَ إلَّا هِشَامٌ، فَكَانَ مِنْ حَقِّ الْعُلَمَاءِ أَنْ يُلْغُوا ذِكْرَهُ، وَيَمْحُوا رَسْمَهُ، وَإِذَا لَمْ يُغَيِّرُوا أَمْرَهُ، وَأَمَّا أَنْ يُحِيلُوا عَلَى ذِكْرِهِ فِي الْأَحْكَامِ، وَيَجْعَلُوهُ تَفْسِيرًا لِمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُفَسِّرًا عِنْدَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ نَزَلَ عَلَيْهِمْ فَخَطْبٌ جَسِيمٌ ؛ وَلِذَلِكَ كَانَتْ رِوَايَةُ أَشْهَبَ فِي ذِكْرِ مُدَّيْنِ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ أَحَبَّ إلَيْنَا مِنْ الرِّوَايَةِ بِأَنَّهَا بِمُدِّ هِشَامٍ.
أَلَا تَرَى كَيْفَ نَبَّهَ مَالِكٌ عَلَى هَذَا الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ [ لِأَشْهَبَ ] : الشِّبَعُ عِنْدَنَا بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالشِّبَعُ عِنْدَكُمْ أَكْثَرُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا لَنَا بِالْبَرَكَةِ، وَبِهَذَا أَقُولُ ؛ فَإِنَّ الْعِبَادَاتِ إذَا أُدِّيَتْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ فِي الْبَدَنِ كَانَ أَسْرَعَ لِلْقَبُولِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْمَالِ كَانَ قَلِيلُهَا أَثْقَلَ فِي الْمِيزَانِ، وَأَبْرَكَ فِي يَدِ الْآخِذِ، وَأَطْيَبَ فِي شِدْقِهِ، وَأَقَلَّ آفَةً فِي بَطْنِهِ، وَأَكْثَرَ إقَامَةً لِصُلْبِهِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ.


الصفحة التالية
Icon