لم يكن لاحد (١) فيك مغمز، ولا لاحد مطمع، ولا لمخلوق عندك هوادة، الضعيف الذليل عندك قوى عزيز، حتى تأخذ / له بحقه، والقوى العزيز عندك ضعيف ذليل، حتى تأخذ منه الحق، القريب والبعيد عندك سواء، أقرب الناس إليك أطوعهم لله شأنك الحق والصدق والرفق (٢) وقولك حكم وحتم (٣)، وأمرك حلم (٤) وحزم، ورأيك علم وعزم، فأبلغت وقد نهج السبيل، وسهل العسير، وأطفأت النيران، واعتدل بك الدين، وقوى الايمان، وظهر أمر الله ولو كره الكافرون، وأتعبت من بعدك إتعابا شديدا وفزت بالخير فوزا عظيما (٥)، فجللت عن البكاء، وعظمت رزيتك في السماء، وهدت مصيبتك الايام فإنا لله وإنا إليه راجعون، رضينا عن الله قضاءه، وسلمنا له أمره، فوالله لن يصاب المسلمون بعد رسول الله ﷺ بمثلك أبدا، فألحقك الله بنبيه، ولا حرمنا أجرك، ولا أضلنا بعدك.
وسكت الناس حتى انقضى كلامه، ثم بكوا حتى علت أصواتهم.
* * *
خطبة أخرى لعلى رضى الله عنه
أما بعد، فإن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع، وإن الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطلاع، وإن المضمار اليوم، وغدا السباق.
ألا وإنكم في أيام مهل، ومن ورائه أجل، فمن أخلص في أيام مهله (٦) فقد فاز، ومن قصر في أيام مهله (٧)، قبل حضور أجله، فقد خسر عمله، وضره أمله.
ألا فاعملوا لله في الرغبة، كما تعملون له في الرهبة.
ألا وإنى لم أر كالجنة نام طالبها، ولا كالنار نام هاربها.