الدولة كاتبا لهما وجيها أريبا، يسمى نقفور ويعرف بالاورانوس، ليفسد ما شرع
فيه مع السقلاروس، واجتمع الرسولان على بساط عضد الدولة يتنافسان في التقرب إليه، ويستبقان إلى التماس الذمام منه، ولم ينصرفا إلى أن انسلخت سنة تسع وستين وثلثمائة.
وذلك أمر لم يكن مثله قط، ويعده المؤرخون من مآثر عضد الدولة.
وكان طلب الاورانوس ينحصر في تسليم السقلاروس ولو بابتياعه، والوعد بتأمينه ومن معه، وإخراج كل أسير للمسلمين في بلاد الروم.
فمال عضد الدولة إلى ذلك، واحتال حتى حمل إليه عامله على ديار بكر السقلاروس مقبوضا عليه، فأكرمه بعد أن احتاط عليه، ووعده بإطلاقه وتجريد عساكر معه لنصرته، ثم وعد الاورانوس خيرا، وأخرج معه الباقلانى بجواب الرسالة، وعاد الباقلانى بمشروع معاهدة، ومعه رسول يعرف بابن قونس ليأخذ إمضاء عضد الدولة عليها، ولكن عضد الدولة بدا له أن يظفر في المعاهدة باسترجاع بعض الحصون، فأعاد ابن قونس وأرسل معه أبا إسحاق بن شهرام، ورجع ابن شهرام بمشروع المعاهدة الاخير، ومعه رسول يعرف بنقفور الكانكلى، ولكن وصولهما صادف اشتداد العلة على عضد الدولة وموته في الثامن من شوال.
ووقع المعاهدة صمصام الدولة على شرطين: أولهما عقد الهدنة لمدة عشر سنوات، وتسليم الحصون التى اشترط ابن شهرام استرجاعها، وثانيهما إطلاق نقفور بعد أخذ خط ملك الروم بتأمينه، وإرجاعه إلى مرتبته.
ذلك مجمل ما كان من أمر الصلة بين عضد الدولة وبين ملك الروم، والبعثات العديدة التى وكانت بينهما، والتى قال الاستاذ الخضيرى والدكتور أبو ريدة: إنه إنه ليس في التاريخ ما يدل عليها.
ورتبا على ذلك ما رتبا من شتى الفروض والاحتمالات، ولو قد فطنا لقول ابن الاثير في حوادث سنة ٧٠: (إن عضد الدولة أرسل الباقلانى إلى ملك الروم في جواب رسالة) وقدرا قوله هذا حق قدره، ورجعا إلى كلامه في حوادث سنة ٦٩ - لالفياه يفصل القول في السبب الذى دعا ملك الروم إلى مراسلة عضد الدولة ومفاوضتة، وطلب عقد الهدنة ٨، ٢٥٥ - ٢٥٦.
جميع تصاريف الخطاب ووجوه / الكلام وطرق البراعة.
فلا تكون الحجة قائمة على المختص ببعض هذه العلوم بانفرادها دون تحققه لعجز (١) البارع في هذه العلوم كلها عنه.
فأما من كان متناهيا في معرفة وجوه الخطاب وطرق البلاغة والفنون التى يمكن فيها إظهار الفصاحة، فهو متى سمع القرآن عرف إعجازه.
وإن لم نقل ذلك أدى هذا القول إلى أن يقال: إن النبي ﷺ لم يعرف إعجاز القرآن حين أوحى إليه، حتى سبر الحال بعجز أهل اللسان عنه ! وهذا خطأ من القول.
فصح من هذا الوجه أن النبي ﷺ حين أوحى إليه القرآن عرف كونه معجزا، أو عرف - بأن (٢) قيل له: إنه دلالة وعلم على نبوتك.
- أنه كذلك، من قبل أن يقرأه على غيرة أو يتحدى إليه سواه.
ولذلك قلنا: إن المتناهى في الفصاحة والعلم بالاساليب التى يقع فيها التفاصح، متى سمع القرآن عرف أنه معجز، لانه يعرف من حال نفسه أنه لا يقدر عليه، وهو يعرف من حال غيره مثل ما يعرف من حال نفسه، فيعلم أن عجز غيره كعجزه هو.
وإن كان يحتاج بعد هذا إلى / استدلال آخر على أنه علم على نبوته، ودلالة على رسالته (٣) بأن يقال له: إن هذه آية لنبى، وإنها (٤) ظهرت عليه، وادعاها معجزة له، وبرهانا على صدقه.
فإن قيل: فإن من الفصحاء من يعلم عجز نفسه عن قول الشعر، ولا يعلم مع ذلك عجز غيره عنه.
فكذلك البليغ، وإن علم عجز نفسه عن مثل القرآن، فهو يخفى عليه عجز غيره.
قيل: هو مع مستقر العادة، وإن عجز عن قول الشعر، وعلم أنه مفحم، فإنه يعلم أن الناس لا ينفكون من وجود الشعراء فيهم.
ومتى علم البليغ المتناهى في صنوف البلاغات عجزه عن القرآن، علم عجز غيره عنه، وأنه كهو، لانه (٥) يعلم أن حاله وحال غيره في هذا الباب سواء.
(٢) س: " معجزا، وبأن قيل ".
(٣) س: " على نبوة.. على رسالة ".
(٤) س: " لنبيه وإنما ".
(٥) س: " غيره لانه كهو لانه (*)