الانبياء، صلوات الله عليهم، لا تبطل ولا تنخرم بخروجهم عن الدنيا وانتقالهم.
إلى دار الآخرة، بل حكمهم في حال خروجهم من الدنيا كحكمهم في حالة نومهم، وحالة اشتغالهم إما بأكل أو شرب، أو قضاء وطر.
والدليل عليه: أن حقيقة النبوة لو كانت ثابتة لهم في حالة اشتغالهم بأداء الرسالة، دون غيرها من الحالات - لكانوا في غيرها من الاحوال غير موصوفين بذلك.
وقد غلط من نسب إلى المحققين من الموحدين - إبطال نبوة الانبياء عليهم السلام بخروجهم من دار الدنيا.
وليس ذلك بصحيح، لان مذهب المحققين، أن الرسول ما استحق شرف الرسالة بتأدية الرسالة، وإنما صار رسولا، واستحق شرف الرسالة والنبوة، بقول مرسله - وهو الله تعالى -: أنت رسولي ونبيى، وقول الله تعالى قديم لا يزول ولا يتغير.
والدليل على صحة هذا أيضا: أنه صلى الله عليه وسلم، سئل فقيل له: متى كنت نبيا ؟ فقال: " كنت نبيا وآدم بين الماء والطين " فحاصل الجواب في هذا: أن شرف النبوة وكمال المنصب ثابت للانبياء، صلوات الله عليهم أجمعين الآن حسب ما كان ثابتا لهم في حال الحياة، لم ينثلم ولم ينتقض، سواء نسخت شرائعهم أو لم تنسخ.
ومن راجع نفسه، ولم يغالط حسه، عرف وتحقق أن النبي، صلى الله عليه وسلم، الآن لم يخاطب شفاها، ولا يأمرهم، ولا يكلمهم من غير واسطة، لكن حكم شريعته وصحة نبوته، ثابت لم ينتقض لاجل خروجه من الدنيا، ولم تزل مرتبته، ولا انخرمت رسالته، ولا بطلت معجزته. فاعلم ذلك وتحققه ".
ولست أدرى: كيف يقرأ ابن حزم كلام الباقلانى هذا في كتابه هذا، ثم يستسيغ ضميره أن يزعم بعد ذلك أن الاشاعرة قالوا هذه المقالة الخبيثة، مع قوله: إن الباقلانى كبيرهم ؟ حقا إن هذا لشئ عجاب !
وما أكثر التهم التى ألصقها ابن حزم بالاشاعرة إلصاقا، وما أوفر عبارات القذف والسباب التى قذفهم بها وسبهم، والتى بلغت أقصى حدود الافحاش والاقذاع، وقد اختص الباقلانى منها بأعظم قسط، وأجزل نصيب.
ولعل مرد ذلك إلى أن الباقلانى قد نقد داود الظاهرى (٢٠٠ - ٢٧٠)، كما يشعر بذلك قول
ولو جاز أن يقولوا: هو سجع معجز، لجاز لهم أن يقولوا: شعر معجز.
وكيف والسجع مما كان يألفه الكهان من العرب، ونفيه من القرآن أجدر بأن يكون حجة من نفى الشعر، لان الكهانة تنافى النبوات، وليس كذلك الشعر.
وقد روى أن النبي ﷺ قال للذين جاءوه وكلموه في شأن الجنين: كيف ندى من لا شرب ولا أكل (١)، ولا صاح فاستهل، أليس دمه قد يطل ؟ فقال: " أسجاعة كسجاعة الجاهلية ؟ " / وفى بعضها: " أسجعا كسجع الكهان " فرأى (٢) ذلك مذموما لم يصح أن يكون في دلالته.
والذى يقدرونه (٣) أنه سجع فهو وهم، لانه قد يكون الكلام على مثال السجع وإن لم يكن سجعا، لان ما يكون به الكلام سجعا يختص ببعض الوجوه دون بعض، لان السجع من الكلام يتبع المعنى فيه اللفظ الذى يؤدى السجع.
وليس كذلك ما اتفق مما هو في تقدير السجع من القرآن، لان اللفظ يقع فيه تابعا للمعنى.
وفصل بين أن ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التى تؤدى المعنى المقصود فيه، وبين أن يكون المعنى منتظما دون اللفظ.
ومتى ارتبط المعنى بالسجع، كانت إفادة السجع كإفادة غيره، ومتى انتظم (٤) المعنى بنفسه دون السجع، كان مستجلبا لتحسين (٥) الكلام دون تصحيح المعنى.
فإن قيل: فقد يتفق في القرآن ما يكون من القبيلين جميعا، فيجب أن تسموا أحدهما سجعا.
قيل: الكلام في تفصيل هذا خارج عن غرض كتابنا، وإلا كنا نأتى على فصل فصل من أول القرآن إلى آخره، ونبين في الموضع الذى يدعون الاستغناء عن السجع من الفوائد ما لا يخفى، ولكنه / خارج عن غرض كتابنا.
وهذا القدر يحقق الفرق بين الموضعين.
ثم إن سلم لهم مسلم موضعا أو مواضع معدودة، وزعم أن وقوع ذلك موقع (٦) الاستراحة في الخطاب إلى الفواصل لتحسين الكلام بها، وهى الطريقة

(١) في الاصول: " من لا أكل ولا شرب " راجع البيان والتبيين ١ / ٢٨٧ - ٢٨٨.
(٢) م: " فرأى أن ذلك " (٣) م: " تقررونه " (٤) س: " ومتى ارتبط " (٥) س: " مستجلبا لتجنيس " (٦) م: " وقوع " (*)


الصفحة التالية
Icon