الطلاب، ضعيفة الاصحاب، وبحسب تأتى مواقعه تقع الافهام دونه، وعلى قدر لطف مسالكه يكون القصور عنه.
فإذا كان نقد الكلام كله صعبا، وتمييزه شديدا، والوقوع على اختلاف فنونه متعذرا، وهذا في كلام الآدميين، فما ظنك بكلام رب العالمين ؟ "
ثم قال: " وقد بينا في نظم القرآن أن الجملة تشتمل على بلاغة منفردة، والاسلوب يختص بمعنى آخر من الشرف ".
وأطلق لقلمه العنان في وصف القرآن وما اشتمل من جوامع المعاني وعظيم البلاغة وعجيب النظم المفارق لسائر النظوم، فأتى في ذلك بما يلذ ويشوق.
ويعجب ويطرب، ومن قوله في هذا المعنى: " تجد فيه الحكمة وفصل الخطاب مجلوة عليك في منظر بهيج، ونظم أنيق، ومعرض رشيق، غير معتاص على الاسماع، ولا مغلق على الافهام، ولا مستكره في اللفظ ولا مستوحش في المنظر، غريب في الجنس، غير غريب في القبيل، ممتلئ ماء ونضارة، ولطفا وغضارة، يسرى في القلب كما يسرى السرور، ويمر إلى مواقعه كما يمر السهم، ويضئ كما يضئ الفجر، ويزخر كما يزخر البحر، طموح، العباب، جموح على المتناول المنتاب، كالروح في البدن، والنور المستطير في الافق،.
والغيث الشامل، والضياء الباهر، (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)، من توهم أن الشعر يلحق شأوه بان ضلاله، ووضح جهله، إذ الشعر سمت قد تناولته الالسن، وتداولته القلوب، وانثالت عليه الهواجس، وضرب الشيطان فيه بسهمه، وأخذ منه بحظه.
وما دونه من كلامهم فهو أدنى محلا، وأقرب مأخذا، وأسهل مطلبا.
والقرآن كتاب دل على صدق متحمله، ورسالة دلت على صحة قول المرسل بها، وبرهان شهد له براهين الانبياء المتقدمين، وبينة على طريقة ما سلف إلى الاولين، تحداهم به.
إذ كان من جنس القول الذى زعموا أنهم أدركوا فيه النهاية، وبلغوا فيه الغاية، فعرفوا عجزهم، كما عرف قوم عيسى نقصانهم فيما قدروا من بلوغ أقصى الممكن في العلاج، والوصول إلى أعلى مراتب الطب، فجاءهم بما بهرهم من إحياء الموتى، وإبراء الاكمه والابرص، وكما أتى موسى بالعصا التى تلقفت ما برعوا فيه من سحرهم، وأتت
فتى تم فيه ما يسر صديقه * على أن فيه ما يسوء الاعاديا (١) / وقال تأبط شرا: أهز به في ندوة الحى عطفه * كما هز عطفى بالهجان الاوارك (٢)
وكقول الآخر: وإذا حديث ساءنى لم أكتئب * وإذا حديث سرنى لم أشرز (٣) وكقول الآخر: وذى إخوة قطعت أرحام بينهم * كما تركوني واحدا لا أخاليا (٤) ونظيره من القرآن: (ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون، ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون) (٥).
[ ومن هذا الجنس قول هند بنت النعمان للمغيرة بن شعبة، وقد أحسن إليها: برتك يد نالتها خصاصة بعد ثروة، وأغناك الله عن يد نالت ثروة بعد فاقة ] (٦).
* * * / ويعدون من البديع " الموازنة "، وذلك كقول بعضهم: اصبر على حر اللقاء، ومضض النزال، وشدة المصاع (٧).

(١) الصناعتين ٢٦٥ والامالي ٢ / ٢ وأمالى المرتضى ١ / ١٩٤ والعمدة ١ / ٥٢، ٤٦ والشعر والشعراء ١ / ٢٥٢ وشرح الحماسة للتبريزي ٣ / ٨٣ وقد عاد أبو هلال العسكري فنسبه إلى جندل بن جابر الفرازى في ص ٣٢٤ وهو وهم لا شك فيه.
(٢) الصناعتين ٢٦٤ وشرح الحماسة للتبريزي ١ / ٩١ والمرزوقي ١ / ٩٤ عطفه: جانبه.
والهجان: الابل البيض الكرام، والاوراك: التى ترعى الاراك.
يقول: أحرك بالثناء جانبه كما حرك جانبى بعطيته، أي أسرك بذلك حتى يرتاح ويطرب كما سرنى حتى اهتززت ".
(٣) الصناعتين ٢٦٦ ونقد الشعر ٤٧ وفى حماسة البحترى ص ١١٩ " قال عبد الله بن سليم الازدي: وإذا حديث... لم أبشر، وبعده: أخشى الفواحش منهما كلتيهما * ورعيت نفسي ناشئا للمكبر " وفى س، م " لم أسرر " والاشر: المرح.
(٤) س، ك والصناعتين ٢٦٦: " أقران بينهم " (٥) سورة النحل: ٥٣، ٥٤ (٦) الزيادة من م، وكلام هند مع بعض التغيير في سر الفصاحة ص ٢٥٢ (٧) كذا في ا، ب، م، ك وفى س: " المصارع " وهو تحريف.
والمصاع كما في اللسان ١٠ / ٢١٤ " المقاتلة والمجالدة بالسيوف ".
(*)


الصفحة التالية
Icon