واعلم أنك تراهم لا يمانعون إذا تكلموا في الاستعارة من أن يقولوا: إنه أراد المبالغة، فجعله أسداً، بل هم يلجؤون إلى القول به. وذلك صريح في أن الأصل فيها المعنى، وأنه المستعار في الحقيقة، وأن قولنا: استعير له اسم الأسد، إشارة إلى أنه استعير له معناه، وأنه جعل إياه، وذلك أنا لو لم نقل ذلك لم يكن لجعل هاهنا معنى، لأن جعل لا يصلح إلا حيث يراد إثبات صفة للشيء، كقولنا: جعلته أميراً، وجعلته لصاً. تريد أنك أثبت له الإمارة، ونسبته إلى اللصوصية، وادعيتها عليه، ورميته بها. وحكم جعل، إذا تعدى إلى مفعولين حكم صير، فكما لا تقول: صيرته أميراً، إلا على معنى أنك أثبت له صفة الإمارة، كذلك لا يصح أن تقول: جملته أسداً، إلا على معنى أنك أثبت له معاني الأسد. وأما ما تجده في بعض كلامهم من أن جعل يكون بمعنى سمى فمما تسامحوا فيه أيضاً، لأن المعنى معلوم وهو مثل أن تجد الرجل يقول: أنا لا أسميه إنساناً. وغرضه أن يقول: إني لا أثبت له المعاني التي بها كان الإنسان إنساناً. فأما أن يكون جعل، في معنى سمى هكذا غفلاً فمما لا يخفى فساده. إلا ترى أنك لا تجد عاقلاً يقول: جعلته زيداً، بمعنى سميته زيداً، ولا يقال للرجل: أجعل ابنك زيداً، بمعنى سميته زيداً، و: ولد لفلان ابن فجعله عبد الله، أي سماه عبد الله.
هذا ما لا يشك فيه ذو عقل إذا نظر. وأكثر ما يكون منهم هذا التسامح، أعني قولهم: إن جعل يكون بمعنى، سمى في قوله تعالى: " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً ". فقد ترى في التفسير أن جعل يكون بمعنى سمى. وعلى ذاك فلا شبهة في أن ليس المعنى على مجرد التسمية، ولكن على الحقيقة التي وصفتها لك. وذاك أنهم أثبتوا للملائكة صفة الإناث، واعتقدوا وجودها فيهم. وعن هذا الاعتقاد صدر عنهم ما صدر من الاسم أعني إطلاق اسم البنات. وليس المعنى أنهم وضعوا لها لفظ الإناث ولفظ البنات من غير اعتقاد معنى وإثبات صفة. هذا محال. أولا ترى إلى قوله تعالى: " أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون "، فلو كانوا لم يزيدوا على إجراء الاسم على الملائكة، ولم يعتقدوا إثبات صفة لما قال الله تعالى: " أشهدوا خلقهم ". هذا ولو كانوا لم يقصدوا إثبات صفة، ولم يكن غير أن وضعوا اسماً لا يريدون به معنى لما استحقوا إلا اليسير من الذم. ولما كان هذا القول منهم كفراً. والتفسير الصحيح والعبارة المستقيمة ما قاله أبو إسحاق الزجاج رحمه الله فإنه قال: إن الجعل هاهنا في معنى القول والحكم على الشيء، تقول قد جعلت زيداً أعلم الناس أي وصفته بذلك وحكمت به.
ونرجع إلى الغرض فنقول: فإذا ثبت أن ليست الاستعارة نقل الاسم، ولكن ادعاء معنى الاسم. وكنا إذا عقلنا من قول الرجل: رأيت أسداً أنه أراد به المبالغة في وصف بالشجاعة، وأن يقول: إنه من قوة القلب، ومن فرط البسالة، وشدة البطش. وفي أن الخوف لا يخامره، والذعر لا يعرض له بحيث لا ينقص عن الأسد، لم نعقل ذلك من لفظ أسد ولكن من ادعائه معنى الأسد الذي رآه ثبت بذلك أن الاستعارة كالكناية في أنك تعرف المعنى فيها من طريق المعقول دون طريق اللفظ.


الصفحة التالية
Icon