فرأيته قد أفادك أن الدمع كان لا يحرم من شبه اللؤلؤ، والعين من شبه النرجس شيئاً فلا تحسبن أن الحسن الذي تراه، والأريحية التي تجدها عنده أنه أفادك ذلك فحسب. وذاك أنك تستطيع أن تجيء به صريحاً فتقول: فأسبلت دمعاً كأنه اللؤلؤ بعينه من عين كأنها النرجس حقيقة. ثم لا ترى من ذلك الحسن شيئاً. ولكن اعلم أن سبب أن راقك، وأدخل الأريحية عليك، أنه أفادك في إثبات شدة الشبه مزية، وأوجدك فيه خاصة قد غرز في طبع الإنسان أن يرتاح لها، ويجد في نفسه هزة عندها. وهكذا حكم نظائره كقول أبي نواس، من السريع:
يبكي فيذري الدر عن نرجس... ويلطم الورد بعناب
وقول المتنبي، من الوافر:
بدت قمراً ومالت خوط بان... وفاحت عنبراً ورنت غزالا
واعلم أن من شأن الاستعارة أنك كلما زدت إرادتك التشبيه إخفاء ازدادت الاستعارة حسناً. حتى إنك تراها أغرب ما تكون إذا كان الكلام قد ألف تأليفاً، إن أردت أن تفصح في بالتشبيه خرجت إلى شيء تعافه النفس، ويلفظه السمع. ومثال ذلك قول ابن المعتز، من مجزوء الرمل:
أثمرت أغصان راحته... بجنان الحسن عنابا
ألا ترى أنك لو حملت نفسك على أن تظهر التشبيه، وتفصح به احتجت إلى أن تقول: أثمرت أصابع يده التي هي كالأغصان لطالبي الحسن شبيه العناب من أطرافها المخضوبة. وهذا ما لا تخفى غثاثته. ومن أجل ذلك كان موقع العناب في هذا البيت أحسن منه في قوله:
وعضت على العناب بالبرد
وذاك لأن إظهار التشبيه فيه لا يقبح هذا القبح المفرط لأنك لو قلت: وعضت على أطراف أصابع كالعناب بثغر كالبرد، كان شيئاً يتكلم بمثله، وإن كان مرذولاً. وهذا موضع لا يتبين سره إلا من كان ملتهب الطبع، حاد القريحة. وفي الاستعارة علم كثير ولطائف معان، ودقائق فروق. وسنقول فيها إن شاء الله في موضع آخر.
واعلم أنا أخذنا في الجواب عن قولهم: إنه لو كان الكلام يكون فصيحاً من أجل مزية تكون في معناه لكان ينبغي أن يكون تفسيره فصيحاً مثله: قلنا إن الكلام الفصيح ينقسم قسمين: قسم تعزى المزية فيه إلى اللفظ. وقسم تعزى فيه إلى النظم. وقد ذكرنا في القسم الأول من الحجج ما لا يبقى معه لعاقل إذا هو تأملها شك في بطلان ما تعلقوا به أنه يلزمنا في قولنا: إن الكلام يكون فصيحاً من أجل مزية تكون في معناه أن يكون تفسير الكلام الفصيح فصيحاً مثله. وأنه تهوس منهم وتقحم في المحالات.
وأما القسم الذي تعزى فيه المزية إلى النظم فإنهم إن ظنوا أن سؤالهم الذي اغتروا به يتجه لهم فيه كان أمرهم أعجب، وكان جهلهم في ذلك أغرب، وذلك أن النظم كما بيناه هو توخي معاني النحو وأحكامه وفروقه ووجوهه، والعمل بقوانينه وأصوله، وليست معاني النحو معاني الألفاظ، فيتصور أن يكون لها تفسير.
وجملة الأمر أن النظم إنما هو أن الحمد من قوله تعالى: " الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم " مبتدأ و لله خبر، ورب صفة لاسم الله تعالى ومضاف إلى العالمين، والعالمين مضاف إليه، والرحمن الرحيم صفتان كالرب، ومالك من قوله: " مالك يوم الدين " صفة أيضاً ومضاف إلى يوم، ويوم مضاف إلى الدين. وإياك: ضمير اسم الله تعالى مما هو ضمير يقع موقع الاسم، إذا كان الاسم منصوباً. معنى ذلك أنك لو ذكرت اسم الله مكانه لقلت: الله نعبد، ثم أن نعبد هو المقتضي معنى النصب فيه. وكذلك حكم إياك نستعين. ثم إن جملة إياك نستعين معطوف بالواو على جملة إياك نعبد. والصراط مفعول، والمستقيم صفة للصراط، وصراط الذين، بدل من الصراط المستقيم، وأنعمت عليهم، صلة الذين، وغير المغضوب عليهم صفة الذين، والضالين معطوف على المغضوب عليهم.