ثم إنه لما كان الكرى يكون في الليل جعل الليل ساقياً. ولما جعله ساقياً، جعل له كفاً، إذ كان الساقي يناول الكأس بالكف. ومن اللطيف النادر في ذلك ما تراه في آخر هذه الأبيات وهي للحكم بن قنبر، من الطويل:
ولولا اعتصامي بالمنى كلما بدا | لي اليأس منها لم يقم بالهوى صبري |
ولولا انتظاري كل يوم جدا غد | لراح بنعشي الدافنون إلى قبري |
وقد رابني وهن المنى وانقباضها | وبسط جديد اليأس كفيه في صدري |
والقول في المجاز هو القول في الاستعارة، لأنه ليس هو بشيء غيرها. وإنما الفرق أن المجاز أعم من حيث إن كل استعارة مجاز، وليس كل مجاز استعارة. وإذا نظرنا من المجاز فيما لا يطلق عليه أنه استعارة ازداد خطأ القوم قبحاً وشناعة، وذلك أنه يلزم على قياس قولهم أن يكون إنما قوله تعالى: " هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً " أفصح من أصله الذي هو قولنا: والنهار لتبصروا أنتم فيه، أو مبصراً أنتم فيه، من أجل أنه حدث في حروف مبصر بأن جعل الفعل للنهار على سعة الكلام وصف لم يكن. وكذلك يلزم أن يكون السبب في ان كان قول الشاعر، من الرجز:
فنام ليلي وتجلى همي
أفصح من قولنا: فنمت في ليلي. أن كسب هذا المجاز لفظ الليل مذاقة لم تكن لهما. وهذا مما ينبغي للعاقل أن يستحي منه، وان يأنف من أن يهمل النظر إهمالاً يؤديه إلى مثله. ونسأل الله تعالى العصمة والتوفيق.
وإذا قد عرفت ما لزمهم في الاستعارة والمجاز فالذي يلزمهم في الإيجاز أعجب، وذلك أنه يلزمهم إن كان اللفظ فصيحاً لأمر يرجع إليه نفسه دون معناه أن يكون كذلك موجزاً لأمر يرجع إلى نفسه وذلك من المحال الذي يضحك منه، لأنه لا معنى للإيجاز إلا أن يدل بالقليل من اللفظ على الكثير من المعنى. وإذ لم تجعله وصفاً للفظ من أجل معناه أبطلت معناه، أعني أبطلت معنى الإيجاز.
ثم إن هاهنا معنى شريفاً قد كان ينبغي أن نكون قد ذكرناه في أثناء ما مضى من كلامنا، وهو أن العاقل إذا نظر علم علم ضرورة أنه لا سبيل له إلى أن يكثر معاني الألفاظ أو يقللها، لأن المعاني المودعة في الألفاظ لا تتغير على الجملة عما أراده واضع اللغة. وإذا ثبت ظهر منه أنه لا معنى لقولنا: كثرة المعنى مع قلة اللفظ، غير أن المتكلم يتوصل بدلالة المعنى على المعنى إلى فوائد لو أنه أراد الدلالة عليها باللفظ لاحتاج إلى لفظ كثير.