ونحن إذا تأملنا وجدنا الذي يكون في الألفاظ من تقديم شيء منها على شيء، إنما يقع في النفس أنه نسق إذا اعتبرنا ما توخي من معاني النحو في معانيها. فأما مع ترك اعتبار ذلك فلا يقع ولا يتصور بحال. أفلا ترى أنك لو فرضت في قوله:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
أن لا يكون نبك جواباً للأمر، ولا يكون معدى بمن إلى ذكرى، ولا يكون ذكرى مضافة إلى حبيب، ولا يكون منزل، معطوفاً بالواو على حبيب، لخرج ما ترى فيه من التقديم والتأخير عن أن يكون نسقاً؟ ذاك لأنه إنما يكون تقديم الشيء على الشيء نسقاً وترتيباً إذا كان التقديم قد كان لموجب أوجب أن يقدم هذا ويؤخر ذاك. فأما أن يكون مع عدم الموجب نسقاً فمحال، لأنه لو كان يكون تقديم اللفظ على اللفظ من غير أن يكون له موجب نسقاً، لكان ينبغي أن يكون توالي الألفاظ في النطق على أي وجه كان نسقاً. حتى إنك لو قلت: نبك قفا حبيب ذكرى من: لم تكن قد أعدمته النسق والنظم، وإنما أعدمته الوزن فقط. وقد تقدم هذا فيما مضى، ولكنا أعدناه هاهنا لأن الذي أخذنا فيه من إسلام القوم أنفسهم إلى التقليد اقتضى إعادته.
واعلم أن الاحتذاء عند الشعراء وأهل العلم بالشعر وتقديره وتمييزه أن يبتدىء الشاعر في معنى له وغرض أسلوباً والأسلوب: الضرب من النظم والطريقة فيه فيعمد شاعر آخر إلى ذلك الأسلوب، فيجيء به في شعره فيشبه بمن يقطع من أديمه نعلاً على مثال نعل قد قطعها صاحبها، فيقال: قد احتذى على مثاله، وذلك مثل أن الفرزدق قال، من الطويل:
أترجو ربيع أن تجيء صغارها... بخير وقد أعيا ربيعاً كبارها.
واحتذاه البعيث فقال، من الطويل:
أترجو كليب أن يجيء حديثها... بخير، وقد أعيا كليباً قديمها
وقالوا إن الفرزدق لما سمع هذا البيت قال، من الوافر:
إذا ما قلت قافية شروداً... تنحلها ابن حمراء العجان!
ومثل ذلك أن البعيث قال في هذه القصيدة، من الطويل:
كليب لئام الناس قد يعلمونه... وأنت إذا عدت كليب لئيمها
وقال البحتري، من الطويل:
بنو هاشم في كل شرق ومغرب... كرام بني الدنيا وأنت كريمها
وحكى العسكري في صنعة الشعر أن ابن الرومي قال: قال لي البحتري: قول أبي نواس، من الطويل:
ولم أدر من هم؟ غير ما شهدت لهم... بشرقي ساباط الديار البسابس
مأخوذ من قول أبي خراش الهذلي، من الطويل:
ولم أدر من ألقى عليه رداءه... سوى أنه قد سل من ماجد محض
قال: فقلت: قد اختلف المعنى، فقال: أما ترى حذو الكلام حذواً واحداً؟.
وهذا الذي كتبت من حلي الأخذ في الحذو.
ومما هو في حد الخفي قول البحتري، من الطويل:
ولن ينقل الحساد مجدك بعدما... تمكن رضوى واطمأن متالع
وقول أبي تمام، من الكامل:
ولقد جهدتم أن تزيلوا عزه... فإذا أبان قد رسا ويلملم
قد احتذى كل واحد منهما على قول الفرزدق، من الكامل:
فادفع بكفك إن أردت بناءنا... ثهلان ذا الهضبات هل يتحلحل
وجملة الأمر أنهم لا يجعلون الشاعر محتذياً إلا بما يجعلونه به آخذاً ومسترقاً. قال ذو الرمة، من الوافر:
وشعر قد أرقت له غريب... أجنبه المساند والمحالا
فبت أقيمه وأقد منه... قوافي لا أريد لها مثالاً
قال: يقول: لا أحذوها على شيء سمعته. فاما أن يجعل إنشاد الشعر وقراءته احتذاء فمما لا يعلمونه. كيف وإذا عمد عامد إلى بيت شعر فوضع مكان كل لفظ لفظاً في معناه كمثل أن يقول في قوله، من البسيط:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
ذر المآثر لا تذهب لمطلبها... واجلس فإنك أنت الآكل اللابس
لم يجعلوا ذلك احتذاء، ولم يؤهلوا صاحبه لأن يسموه محتذياً، ولكن يسمون الصنيع سلخاً، ويرذلونه ويسخفون المتعاطي له. فمن أين يجوز لنا أن نقول في صبي يقرأ قصيدة امرىء القيس إنه احتذاه في قوله:
فقلت له لما تمطى بصلبه... وأردف أعجازاً وناء بكلكل