وجملة الأمر أنك لن تعلم في شيء من الصناعات علماً تمر فيه وتحلي حتى تكون ممن يعرف الخطأ فيها من الصواب، ويفصل بين الإساءة والإحسان، بل حتى تفاضل بين الإحسان والإحسان، وتعرف طبقات المحسنين.
وإذا كان هذا هكذا علمت أنه لا يكفي في علم الفصاحة أن تنصب لها قياساً، وأن تصفها وصفاً مجملاً، وتقول فيها قولاً مرسلاً. بل لا تكون من معرفتها في شيء حتى تفصل القول وتحصل، وتضع اليد على الخصائص التي تعرض في نظم الكلم وتعدها واحدة واحدة، وتسميها شيئاً شيئاً. وتكون معرفتك معرفة الصنع الحاذق الذي يعلم علم كل خيط من الأبريسم الذي في الديباج، وكل قطعة من القطع المنجورة في الباب المقطع، وكل آجرة من الآجر الذي في البناء البديع.
وإذا نظرت إلى الفصاحة هذا النظر، وطلبتها هذا الطلب، احتجت إلى صبر على التأمل، ومواظبة على التدبر، وإلى همة تأبى لك أن تقنع إلا بالتمام، وأن تربع إلا بعد بلوغ الغاية.
ومتى جشمت ذلك، وأبيت إلا أن تكون هنالك، فقد أممت إلى غرض كريم وتعرضت لأمر جسيم، وآثرت التي هي أتم لدينك وفضلك، وأنبل عند ذوي العقول الراجحة لك. وذلك أن تعرف حجة الله تعالى من الوجه الذي هو أضوأ لها وأنوه لها وأخلق بأن يزداد نورها سطوعاً، وكوكبها طلوعاً، وأن تسلك إليها الطريق الذي هو آمن لك من الشك، وأبعد من الريب، وأصح لليقين، وأحرى بأن يبلغك قاصية التبيين.
واعلم أنه لا سبيل إلى أن تعرف صحة هذه الجملة، حتى يبلغ القول غايته، وينتهي إلى آخر ما أردت جمعه لك، وتصويره في نفسك، وتقريره عندك، إلا أن هاهنا نكتة إن أنت تأملتها تأمل المتثبت، ونظرت فيها نظر المتأني، رجوت أن يحسن ظنك، وأن تنشط للإصغاء إلى ما أورده عليك. وهي أنا إذا سقنا دليل الإعجاز فقلنا: لولا أنهم حين سمعوا القرآن وحين تحدوا إلى معارضته، سمعوا كلاماً لم يسمعوا قط مثله، وأنهم قد رازوا أنفسهم فأحسوا بالعجز عن أن يأتوا بما يوازيه أو يدانيه، أو يقع قريباً منه، لكان محالاً أن يدعم معارضته وقد تحدوا إليه، وقرعوا فيه، وطولبوا به، وأن يتعرضوا لشبا الأسنة، ويقتحموا موارد الموت، فقيل لنا: قد سمعنا ما قلتم، فخبرونا عنهم عما ذا عجزوا؟ أعن معان في دقة معانيه وحسنها وصحتها في العقول؟ أم عن ألفاظ مثل ألفاظه؟ فإن قلتم عن الألفاظ، فماذا أعجزهم من اللفظ أم ما بهرهم منه؟ فقلنا: أعجزتهم مزايا ظهرت لهم في نظمه، وخصائص صادفوها في سياق لفظه، وبدائع راعتهم من مبادئ آيه ومقاطعها، ومجاري ألفاظها ومواقعها، وفي مضرب كل مثل، ومساق كل خبر، وصورة كل عظة وتنبيه، وإعلام وتذكير وترغيب وترهيب، ومع كل حجة وبرهان، وصفة وتبيان. وبهرهم أنهم تأملوه سورة سورة، وعشراً عشراً وآية آية، فلم يجدوا في الجميع كلمة ينبو بها مكانها، ولفظة ينكر شأنها، و يرى أن غيرها أصلح هناك أو أشبه، أو أحرى وأخلق. بل وجدوا اتساقاً بهر العقول، وأعجز الجمهور، ونظاماً والتئاماً وإتقاناً وإحكاماً، لم يدع في نفس بليغ منهم ولو حك بيافوخه السماء موضع طمع حتى خرست الألسن عن أن تدعي وتقول وخلدت القروم، فلم تملك أن تصول.
نعم فإذا كان هو الذي يذكر في جواب السائل، فبنا أن ننظر: أي أشبه بالفتى في عقله ودينه؟ وأزيد له في علمه ويقينه؟ أأن يقلد في ذلك، ويحفظ متن الدليل وظاهر لفظه ولا يبحث عن تفسير المزايا والخصائص؟ ما هي ومن أين كثرت الكثرة العظيمة، واتسعت لاتساع المجاوز لوسع الخلق وطاقة البشر؟ وكيف يكون أن تظهر في ألفاظ محصورة، وكلم معدودة معلومة، بأن يؤتى ببعضها في إثر بعض لطائف لا يحصرها العدد، ولا ينتهي بها الأمد؟ أم أن يبحث عن ذلك كله، ويستقصي النظر في جميعه، ويتتبعه شيئاً فشيئاً، يستقصيه باباً فباباً، حتى يعرف كلا منه بشاهده ودليله، ويعلمه بتفسيره وتأويله، ويوثق بتصوره وتمثيله، ولا يكون كمن قيل فيه، من الطويل:
يقولون أقوالاً ولا يعلمونها... ولو قيل: هاتوا حققوا، لم يحققوا