اعلم أنه لما كان الغلط الذي دخل على الناس في حديث اللفظ كالداء الذي يسري في العروق، ويفسد مزاج البدن، وجب أن يتوخى دائباً فيهم ما يتوخاه الطبيب في الناقه من تعهده بما يزيد في منته، ويبقيه على صحته، ويؤمنه النكس في علته. وقد علمنا أن أصل الفساد وسبب الآفة هو ذهابهم عن أن من شأن المعاني أن تختلف عليها الصور، وتحدث فيها خواص ومزايا من بعد أن لا تكون، فإنك ترى الشاعر قد عمد إلى معنى مبتذل، فصنع فيه ما يصنع الصانع الحاذق إذا هو أغرب في صنعة خاتم، وعمل شنف وغيرهما من أصناف الحلي. فإن جهلهم بذلك من حالها هو الذي أغواهم واستهواهم، وورطهم فيما تورطوا فيه من الجهالات، وأداهم إلى التعلق بالمحالات، وذلك أنهم لما جهلوا شأن الصورة، وضعوا لأنفسهم أساساً، وبنوا على قاعدة، فقالوا: إنه ليس إلا المعنى واللفظ ولا ثالث. وإنه إذا كان كذلك وجب إذا كان لأحد الكلامين فضيلة لا تكون للآخر، ثم كان الغرض من أحدهما هو الغرض من صاحبه أن يكون مرجع تلك الفضيلة إلى اللفظ خاصة، وأن يكون لها مرجع إلى المعنى من حيث إن ذلك زعموا يؤدي إلى التناقض، وأن يكون معناهما متغايراً وغير متغاير معاً. ولما أقروا هذا في نفوسهم حملوا كلام العلماء في كل ما نسبوا فيه الفضيلة إلى اللفظ على ظاهره، وأبوا أن ينظروا في الأوصاف التي أتبعوها نسبتهم الفضيلة إلى اللفظ مثل قولهم: لفظ متمكن غير قلق ولا ناب به موضعه. إلى سائر ما ذكرناه قبل، فيعلموا أنهم لم يوجبوا للفظ ما أوجبوه من الفضيلة، وهم يعنون نطق اللسان وأجراس الحروف. ولكن جعلوا كالمواضعة فيما بينهم أن يقولوا اللفظ، وهم يريدون الصورة التي تحدث في المعنى، والخاصة التي حدثت فيه، ويعنون الذي عناه الجاحظ حيث قال: وذهب الشيخ إلى استحسان المعاني، والمعاني مطروحة وسط الطريق يعرفها العربي والعجمي والحضري والبدوي، وإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير. وما يعنونه إذا قالوا: إنه يأخذ الحديث، فيشنفه ويقرطه، ويأخذ المعنى خرزة فيرده جوهرة، وعباءة فيجعله ديباجة، ويأخذه عاطلاً فيجعله حالياً. وليس كون هذا مرادهم بحيث كان ينبغي أن يخفى هذا الخفاء، ويشتبه هذا الاشتباه. ولكن إذا تعاطى الشيء غير أهله، وتولى الأمر غير البصير به، أعضل الداء، واشتد البلاء.
ولو لم يكن من الدليل على أنهم لم ينحلوا اللفظ الفضيلة وهم يريدونه نفسه، وعلى الحقيقة إلا واحد وهو وصفهم له بأنه يزين المعنى، وأنه حلي له لكان فيه الكفاية. وذاك أن الألفاظ أدلة على المعاني، وليس للدليل إلا أن يعلمك الشيء على ما يكون عليه. فأما أن يصير بالدليل على صفة لم يكن عليها، فمما لا يقوم في عقل، ولا يتصور في وهم.
ومما إذا تفكر فيه العاقل أطال التعجب من أمر الناس ومن شدة غفلتهم قول العلماء حيث ذكروا الآخذ والسرقة: إن من أخذ معنى عارياً فكساه لفظاً من عنده كان أحق به. وهو كلام مشهور متداول يقرؤه الصبيان في أول كتاب عبد الرحمن. ثم لا ترى أحداً من هؤلاء الذين لهجوا بجعل الفضيلة في اللفظ يفكر في ذلك فيقول: من أين يتصور أن يكون هاهنا معنى عار من لفظ يدل عليه، ثم من أين يعقل أن يجيء الواحد منا لمعنى من المعاني بلفظ من عنده، إن كان المراد باللفظ نطق اللسان، ثم هب أنه يصح له أن يفعل ذلك، فمن أين يجب إذا وضع لفظاً على معنى أن يصير أحق من صاحبه الذي أخذه منه، إن كان هو لا يصنع بالمعنى شيئاً، ولا يحدث فيه صفة، ولا يكسبه فضيلة. وإذا كان كذلك فهل يكون لكلامهم هذا وجه سوى أن يكون اللفظ في قولهم: فكساه لفظاً من عنده كان عبارة عن صورة يحدثها الشاعر أو غير الشاعر للمعنى؟ فإن قالوا: بلى يكون، وهو أن يستعير للمعنى لفظاً قيل: الشأن في أنهم قالوا: إذا أخذ معنى عارياً، فكساه لفظاً من عنده كان أحق به.
والاستعارة عندكم مقصورة على مجرد اللفظ، ولا ترون المستعير يصنع بالمعنى شيئاً وترون أنه لا يحدث فيه مزية على وجه من الوجوه. وإذا كان كذلك فمن أين ليت شعري يكون أحق به، فاعرفه.
ثم إن أردت مثالاً في ذلك فإن من أحسن شيء فيه ما صنع أبو تمام في بيت أبي نخيلة. وذلك أن أبا نخيلة قال في مسلمة بن عبد الملك، من الطويل:
أمسلم إني يابن كل خليفة | ويا جبل الدنيا ويا واحد الأرض |