وجملة الأمر أنه كما لا تكون الفضة أو الذهب خاتماً أو سواراً أو غيرهما من أصناف الحلي بأنفسهما، ولكن بما يحدث فيهما من الصورة. كذلك لا تكون الكلم المفردة التي هي أسماء وحروف كلاماً وشعراً من غير أن يحدث فيها النظم الذي حقيقته توخي معاني النحو وأحكامه. فإذاً ليسلمن يتصدى لما ذكرنا من أن يعمد إلى بيت، فيضع مكان كل لفظة منها لفظة في معناها إلا أن يسترك عقله ويستخف ويعد معد الذي حكي أنه قال: إني قلت بيتاً هو أشعر من بيت حسان. قال حسان، من الكامل:
يغشون حتى ماتهر كلابهم | لايسألون عن السواد المقبل |
وقلت:يغشون حتى كما تهر كلابهم | أبداً ولا يسلون من ذا المقبل |
فقيل: هو بيت حسان، ولكنك قد أفسدته! واعلم أنه إنما أتي القوم من قلة نظرهم في الكتب التي وضعها العلماء في اختلاف العبارتين على المعنى الواحد، وفي كلامهم في أخذ الشاعر من الشاعر، وفي أن يقول، الشاعران على الجملة في معنى واحد، وفي الأشعار التي دونوها في هذا المعنى. ولو أنهم كانوا أخذوا أنفسهم بالنظر في تلك الكتب وتدبروا ما فيها حق التدبر لكان يكون ذلك قد أيقظهم من غفلتهم، وكشف الغطاء عن أعينهم.
وقد أردت أن أكتب جملة من الشعر الذي أنت ترى الشاعرين فيه قد قالا في معنى واحد. وهو ينقسم قسمين: قسم أنت ترى أحد الشاعرين فيه قد أتى بالمعنى غفلاً ساذجاً، وترى الآخر قد أخرجه في صورة تروق وتعجب. وقسم أنت ترى كل واحد من الشاعرين قد صنع في المعنى وصور.
وأبدأ بالقسم الأول الذي يكون المعنى في أحد البيتين غفلاً وفي الآخر مصوراً مصنوعاً، ويكون ذلك إما لأن متأخراً قصر عن متقدم، وإما لأن هدي متأخر لشيء لم يهتد إليه المتقدم، ومثال ذلك قول المتنبي، من السريع:
بئس الليالي سهدت من طربي | شوقاً إلى من يبيت يرقدها |
مع قول البحتري، من الكامل:ليل يصادفني ومرهفة الحشا | ضدين أسهره لها وتنامه |
وقول البحتري، من البسيط:ولو ملكت زماعاً ظل يجذبني | قوداً لكان ندى كفيك من عقلي |
مع قول المتنبي، من الطويل:وقيدت نفسي في ذراك محبة | ومن وجد الإحسان قيداً تقيدا |
وقول المتنبي، من الكامل:إذا اعتل سيف الدولة اعتلت الأرض | ومن فوقها والبأس والكرم المحض |
مع قول البحتري، من الكامل:
ظللنا نعود الجود من وعكك الذي... وجدت وقلنا: اعتل عضو من المجد
وقول المتنبي، من الكامل:يعطيك مبتدئاً فإن أعجلته | أعطاك معتذراً كمن قد أجرما |
مع قول أبي تمام، من الكامل:أخو عزمات فعله فعل محسن | إلينا ولكن عذره عذر مذنب |
وقول المتنبي، من الطويل:كريم متى استوهبت ما أنت راكب | وقد لقحت حرب فإنك نازل |
مع قول البحتري، من البسيط:ماض على عزمه في الجود لو وهب ال | شباب يوم لقاء البيض ما ندما |
وقول المتنبي، من الخفيف:والذي يشهد الوغى ساكن القل | ب كأن القتال فيها ذمام |
مع قول البحتري، من الطويل:لقد كان ذاك الجأش جأش مسالم | على أن ذاك الزي زي محارب |
وقول أبي تمام، من الكامل:الصبح مشهور بغير دلائل | من غيره ابتغيت ولا أعلام |
مع قول المتنبي، من الوافر:وليس يصح في الأذهان شيء | إذا احتاج النهار إلى دليل |
وقول أبي تمام، من الوافر:وفي شرف الحديث دليل صدق | لمختبر على الشرف القديم |
مع قول المتنبي، من البسيط:أفعاله نسب لو لم يقل معها | جدي الخصيب عرفنا العرق بالغصن |
وقول البحتري، من الكامل:وأحب آفاق البلاد إلى الفتى | أرض ينال بها كريم المطلب |
مع قول المتنبي، من الطويل:وكل امرىء يولي الجميل محبب | وكل مكان ينبت العز طيب |
وقول المتنبي، من الطويل:يقر له بالفضل من لا يوده | ويقضي له بالسعد من لا ينجم |
مع قول البحتري، من الكامل:لا أدعي لأبي العلاء فضيلة | حتى يسلمها إليه عداه |
وقول خالد الكاتب، من المتقارب: