لو لم يكن في كفه غير روحه... لجاد بها فليتق الله سائله
مع قول المتنبي، من المنسرح:
إنك من معشر إذا وهبوا... ما دون أعمارهم فقد بخلوا
وقول البحتري، من الطويل:
ومن ذا يلوم البحر أن بات زاخراً... يفيض وصوب المزن أن راح يهطل
مع قول المتنبي، من البسيط:
وما ثناك كلام الناس عن كرم... ومن يسد طريق العارض الهطل؟
وقول الكندي، من الكامل:
عزوا وعز بعزهم من جاوروا... فهم الذرى وجماجم الهامات
إن يطلبوا بتراتهم يعطوا بها... أو يطلبوا لا يدركوا بترات
مع قول المتنبي، من الطويل:
تفيت الليالي كل شيء أخذته... وهن لما يأخذن منك غوارم
وقول أبي تمام، من الطويل:
إذا سيفه أضحى على الهام حاكماً... غدا العفو منه وهو في السيف حاكم
مع قول المتنبي، من الكامل:
له من كريم الطبع في الحرب منتض... ومن عادة الإحسان والصفح غامد
فانطر الآن نظر من نفى الغفلة عن نفسه، فإنك ترى عياناً أن للمعنى في كل واحد من البيتين من جميع ذلك صورة وصفة غير صورته وصفته في البيت الآخر. وأن العلماء لم يريدوا حيث قالوا: إن المعنى في هذا هو المعنى في ذاك، أن الذي تعقل من هذا لا يخالف الذي تعقل من ذاك. وأن المعنى عائد عليك في البيت الثاني على هيئته وصفته التي كان عليها في البيت الأول، وأن لا فرق ولا فصل ولا تباين بوجه من الوجوه، وأن حكم البيتين مثلاً حكم الاسمين قد وضعا في اللغة لشيء واحد كالليث والأسد. ولكن قالوا ذلك على حسب ما يقوله العقلاء في الشيئين يجمعهما جنس واحد، ثم يفترقان بخواص ومزايا وصفات كالخاتم والخاتم، والشنف والشنف، والسوار والسوار، وسائر أصناف الحلي التي يجمعها جنس واحد، ثم يكون بينها الاختلاف الشديد في الصنعة والعمل.
ومن هذا الذي ينظر إلى بيت الخارجي وبيت أبي تمام فلا يعلم أن صورة المعنى في ذلك غير صورته في هذا. كيف والخارجي يقول: واحتجت له فعلاته. ويقول أبو تمام:
إذا لهجاني عنه معروفه عندي
ومتى كان احتج وهجا واحداً في المعنى، وكذلك الحكم في جميع ما ذكرناه، فليس يتصور في نفس عاقل أن يكون قول البحتري:
وأحب آفاق البلاد إلى الفتى... أرض ينال بها كريم المطلب
وقول المتنبي:
وكل مكان ينبت العز طيب
سواء.
واعلم أن قولنا: الصورة، إنما هو تمثيل وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا. فلما رأينا البينونة بين آحاد الأجناس تكون من جهة الصورة فكان بين إنسان من إنسان، وفرس من فرس، بخصوصية تكون في صورة هذا لا تكون في صورة ذاك. وكذلك كان الأمر في المصنوعات، فكان تبين خاتم من خاتم، وسوار من سوار بذلك. ثم وجدنا بين المعنى في أحد البيتين وبينه في الآخر بينونة في عقولنا، وفرقاً عبرنا عن ذلك الفرق وتلك البينونة بأن قلنا: للمعنى في هذا صورة غير صورته في ذلك. وليس العبارة عن ذلك بالصورة شيئاً نحن ابتدأناه، فينكره منكر، بل هو مستعمل مشهور في كلام العلماء. ويكفيك قول الجاحظ: وإنما الشعر صناعة وضرب من التصوير.
واعلم أنه لو كان المعنى في أحد البيتين يكون على هيئته وصفته في البيت الآخر وكان التالي من الشاعرين يجيئك به معاداً على وجهه لم يحدث فيه شيئاً، ولم يغير له صفة لكان قول العلماء في شاعر: إنه أخذ المعنى من صاحبه فأحسن وأجاد. وفي أخر: إنه أساء وقصر لغواً من القول من حيث كان محالاً أن يحسن أو يسيء في شيء لا يصنع به شيئاً وكذلك كان يكون جعلهم البيت نظيراً للبيت ومناسباً له خطأ منهم، لأنه محال أن يناسب الشيء نفسه، وأن يكون نظيراً لنفسه. وأمر ثالث وهو أنهم يقولون في واحد: إنه أخذ المعنى فظهر أخذه، وفي آخر: إنه أخذه فأخفى أخذه. ولو كان المعنى يكون معاداً على صورته وهيئته، وكان الآخذ له من صاحبه لا يصنع شيئاً، غير أن يبدل لفظاً مكان لفظ لكان الإخفاء فيه محالاً. لأن اللفظ لا يخفي المعنى، وإنما يخفيه إخراجه في صورة غير التي كان عليها. مثال ذلك أن القاضي أبا الحسن ذكر فيما ذكر فيه تناسب المعاني بيت أبي نواس، من مجزوء الرمل:
حليت والحسن تأخذه... تنتقي منه وتنتخب