وإذا كان الأمر كذلك عند كافة العلماء الذين تكلموا في المزايا التي للقرآن، فينبغي أن ينظر في أمر الذي يسلم نفسه إلى الغرور، فيزعم أن الوصف الذي كان له القرآن معجزاً هو سلامة حروفه مما يثقل على اللسان. أيصح له القول بذلك إلا من بعد أن يدعي الغلط على العقلاء قاطبة فيما قالوه، والخطأ فيما أجمعوا عليه؟ وإذا نظرنا وجدناه لا يصح له ذلك إلا بأن يقتحم هذه الجهالة. اللهم إلا أن يخرج إلى الضحكة فيزعم مثلاً أن من شأن الاستعارة والإيجاز إذا دخلا الكلام أن يحدث بهما في حروفه خفة، ويتجدد فيها سهولة ونسأل الله تعالى العصمة والتوفيق.
واعلم أنا لا نأبى أن تكون مذاقة الحروف وسلامتها مما يثقل على اللسان، داخلاً فيما يوجب الفضيلة، وأن تكون مما يؤكد أمر الإعجاز. وإنما الذي ننكره ونفيل رأي من يذهب إليه أن يجعله معجزاً به وحده، ويجعله الأصل والعمدة، فيخرج إلى ما ذكرنا من الشناعات ثم إن العجب كل العجب ممن يجعل كل الفضيلة في شيء، هو إذا انفرد لم يجب فضل البتة، ولم يدخل في اعتداد بحال. وذلك أنه لا يخفى على عاقل أنه لا يكون بسهولة الألفاظ وسلامتها مما يثقل على اللسان اعتداد حتى يكون قد ألف منها كلام. ثم كان ذلك الكلام صحيحاً في نظمه، والغرض الذي أريد به. وأنه لو عمد عامد إلى ألفاظ فجمعها من غير أن يراعي فيها معنى، ويؤلف منها كلاماً، لم تر عاقلاً يعتد السهولة فيها فضيلة. لأن الألفاظ لا تراد لأنفسها، وإنما تراد لتجعل أدلة على المعاني. فإذا عدمت الذي له تراد، اختل أمرها فيه لم يعتد بالأوصاف التي تكون في أنفسها عليها، وكانت السهولة وغير السهولة فيها واحداً. ومن هاهنا رأيت العلماء يذمون من يحمله تطلب السجع والتجنيس على أن يضم لهما المعنى، ويدخل الخلل عليه من أجلهما، وعلى أن يتعسف في الاستعارة بسببهما، ويركب الوعورة، ويسلك المسالك المجهولة، كالذي صنع أبو تمام في قوله، من البسيط:

سيف الإمام الذي سمته هيبته لما تخرم أهل الأرض مخترما
قرت بقران عين الدين وانتشرت بالأشترين عيون الشرك فاصطلما
وقوله، من الكامل:
ذهبت بمذهبه السماحة والتوت فيه الظنون أمذهب أم مذهب
ويصنعه المتكلفون في الأسجاع، وذلك أنه لا يتصور أن يجب بهما ومن حيث هما فضل، ويقع بهما مع الخلو من المعنى اعتداد. وإذا نظرت إلى تجنيس أبي تمام: أمذهب أم مذهب فاستضعفته، وإلى تجنيس القائل، من البسيط:
حتى نجا من خوفه وما نجا
وقول المحدث، من الخفيف:
ناظراه فيما جنى ناظراه أو دعاني أمت بما أودعاني
فاستحسنته، لم تشك بحال أن ذلك لم يكن لأمر يرجع إلى اللفظ، ولكن لأنك رأيت الفائدة ضعفت في الأول، وقويت في الثاني. وذلك أنك رأيت أبا تمام لم يزدك ب مذهب ومذهب على أن أسمعك حروفاً مكررة لا تجد لها فائدة إن وجدت إلا متكلفة متمحلة. ورأيت الآخر قد أعاد عليك اللفظة كأنه يخدعك في الفائدة، وقد أعطاها. ويوهمك أنه لم يزدك، وقد أحسن الزيادة ووفاها. ولهذه النكتة كان التجنيس وخصوصاً نمستوفى منه مثل: نجا ونجا من حلي الشعر. والقول فيما يحسن وفيما لا يحسن من التجنيس والسجع يطول. ولم يكن غرضنا من ذكرهما شرح أمرهما، ولكن توكيد ما انتهى بنا القول إليه من استحالة أن يكون الإعجاز في مجرد السهولة وسلامة الألفاظ مما يثقل على اللسان.
وجملة الأمر أنا ما رأينا في الدنيا عاقلاً اطرح النظم والمحاسن التي هو السبب فيها في الاستعارة والكناية والتمثيل وضروب المجاز والإيجاز وصد بوجهه عن جميعها، وجعل الفضل كله، والمزية أجمعها في سلامة الحروف مما يثقل، كيف وهو يؤدي إلى السخف والخروج من العقل كما بينا.
واعلم أنه قد آن لنا أن نعود إلى ما هو الأمر الأعظم والغرض الأهم، والذي كأنه هو الطلبة، وكل ما عداه ذرائع إليه، وهو المرام، وما سواه أسباب للتسلق عليه. وهو بيان العلل التي لها وجب أن يكون لنظم مزية على نظم، وأن يعم أمر التفاضل فيه ويتناهى إلى الغايات البعيدة. ونحن نسأل الله تعالى العون على ذلك والتوفيق له والهداية إليه.

بسم الله الرحمن الرحيم

أهمية السياق للمعنى


الصفحة التالية
Icon