وإنا وماتلقي لنا إن هجوتنا لكالبحر، مهما يلق في البحر يغرق
كان له مزية على قول الفرزدق فيما ذكرنا، لأنك تجد في صدر بيت الفرزدق جملة تؤدي معنى، وإن لم يكن معنى يصح أن يقال: إنه معنى فلان. ولا تجد في صدر الأبيات ما يصح أن يعد جملة تؤدي معنى، فضلاً عن أن تؤدي معنى يقال إنه معنى فلان.
ذاك لأن قوله: كأن مثار النقع.. إلى: وأسيافنا ا جزء واحد، وليل تهاوى كواكبه بجملته الجزء الذي ما لم تأت به لم تكن قد أتيت بكلام وهكذا سبيل البيتين الأخيرين. فقوله كأن قلوب الطير رطباً ويابساً لدى وكرها، جزء، وقوله: ، العناب والحشف البالي الجزء الثاني. وقوله:
وإنا وما تلقي لنا إن هجوتنا
جزء، وقوله: لكالبحر الجزء الثاني. وقوله: مهما تلق في البحر يغرق، وإن كان جملة مستأنفة، ليس لها في الظاهر تعلق بقوله: لكالبحر، فإنها لما كانت مبينة لحال هذا التشبيه صارت كأنها متعفقة بهذا التشبيه، وجرى مجرى أن تقول: لكالبحر في أنه لا يلقى فيه شيء إلا غرق.
الألفاظ المفردة والوضع والنظم
وإذا ثبت أن الجملة إذا بني عليها حصل منها ومن الذي بني عليها في الكثير معنى يجب فيه أن ينسب إلى واحد مخصوص، فإن ذلك يقتضي لا محالة أن يكون الخبر في نفسه معنى هو غير المخبر به والمخبر عنه. ذاك لعلمنا باستحالة أن يكون للمعنى المخبر به نسبة إلى المخبر، وأن يكون المستنبط والمستخرج والمستعان على تصويره بالفكر، فليس يشك عاقل أنه محال أن يكون للحمل في قوله:
وما حملت أم امرىء في ضلوعها
نسبة إلى الفرزدق وأن يكون الفكر منه كان فيه نفسه، وأن يكون معناه الذي قيل إنه استنبطه واستخرجه وغاص عليه. وهكذا السبيل أبداً، لا يتصور أن يكون للمعنى المخبر به نسبة إلى الشاعر، وأن يبلغ من أمره أن يصير خاصاً به، فاعرفه.
ومن الدليل القاطع فيه ما بيناه في الكناية والاستعارة والتمثيل، وشرحناه من أن من شأن هذه الأجناس أن توجب الحسن والمزية، وأن المعاني تتصور من أجلها بالصور المختلفة، وأن العلم بإيجابها ذلك ثابت في العقول، ومركوز في غرائز النفوس، وبينا كذلك أنه محال أن تكون المزايا التي تحدث بها حادثة في المعنى المخبر به، المثبت أو المنفي لعلمنا باستحالة أن تكون المزية التي تجدها لقولنا: هو طويل النجاد، على قولنا: طويل القامة في الطول، والتي تجدها لقولنا: هو كثير رماد القدر على قولنا: هو كثير القرى والضيافة لما في كثرة القرى. وإذا كان ذلك محالاً ثبت أن المزية والحسن يكونان في إثبات ما يراد أن يوصف به المذكور والإخبار به عنه. وإذا ثبت ذلك ثبت أن الاثبات معنى، لأن حصول المزية والحسن فيما ليس بمعنى محال.
بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي وعليه اعتمادي اعلم أن هاهنا أصلاً أنت ترى الناس فيه في صورة من يعرف من جانب وينكر آخر، وهو أن الألفاظ المفردة التي هي أوضاع اللغة لم توضع لتعرف معانيها في أنفسها ولكن لأن يضم بعضها إلى بعض فيعرف فيما بينها فوائد، وهذا علم شريف، وأصل عظيم والدليل على ذلك أنا إن زعمنا أن الألفاظ التي هي أوضاع اللغة إنما وضعت ليعرف بها معانيها في أنفسها لأدى ذلك إلى ما لا يشك عاقل في استحالته، وهو أن يكونوا قد وضعوا للأجناس الأسماء التي وضعوها لها لتعرفها بها، حتى كأنهم لو لم يكونوا قالوا: رجل وفرس ودار، لما كان يكون لنا علم بمعانيها. وحتى لو لم يكونوا قالوا: فعل ويفعل، لما كنا نم الخبر في نفسه ومن أصله. ولو لم يكونوا قد قالوا: افعل، لما كنا نعرف الأمر من أصله، نجده في نفوسنا. وحتى لو لم يكونوا قد وضعوا الحروف لكنا نجهل معانيها، فلا نعقل نفياً ولا نهياً ولا استفهاماً ولا استثناء. وكيف والمواضعة لا تكون، ولا تتصور إلا على معلم فمحال أن توضع اسم أو غير اسم لغير معلوم، ولأن المواضعة كالإشارة، فكما أنك قلت: خذ ذاك، لم تكن هذه الإشارة لتعرف السامع المشار إليه في نفسه، ولكن ليعلم المقصود من بين سائر الأشياء التي تراها وتبصرها، كذلك حكم اللفظ مع ما وضع له. ومن هذا الذي يشك أنا لم نعرف الرجل والفرس والضرب والقتل إلا من أساميها، لو كان لذلك مساغ في العقل لكان ينبغي إذا قيل: زيد، أن تعرف المسمى بهذا الاسم من غير أن تكون قد شاهدته، أو ذكر لك بصفة.


الصفحة التالية
Icon