ولا تشك إلى خلق فتشمته... شكوى الجريح إلى الغربان والرخم
وذلك أنك إذا قلت: لا تضجر ضجر زيداً، كنت قد جعلت زيداً يضجر ضرباً من الضجر مثل أن تجعله يفرط فيه أو يسرع إليه. هذا هو موجب العرف. ثم إن لم تعتب خصوص وصف فلا أقل من أن تجعل الضجر على الجملة من عادته، وأن تجعله قد كان منه. وإذا كان كذلك اقتضى قوله:
شكوى الجريح إلى الغربان والرخم
أن يكون هاهنا جريح قد عرف من حاله أن يكون له شكوى إلى الغربان والرخم، وذلك محال. وإنما العبارة الصحيحة في هذا أن يقال: لا تشك إلى خلق فإنك إن فعلت كان مثل ذلك مثل أن تصور في وهمك أن بعيراً دبراً كشف عن جرحه، ثم شكاه إلى الغربان والرخم.
ومن ذلك أنك ترى من العلماء من قد تأول في الشيء تأويلاً، وقضى فيه بأمر، فتعتقده اتباعاً، ولا ترتاب أنه على ما قضى وتأؤل. وتبقى على ذلك الاعتقاد الزمان الطويل: ثم يلوح لك ما تعلم به أن الأمرعلى خلاف ما قدر.
ومثال ذلك أن أبا القاسم الآمدي ذكر بيت البحتري، من البسيط:
فصاغ ما صاغ من تبر ومن ورق... وحاك ما حاك من وشي وديباج
ثم قال: صوغ الغيث وحوكه للنبات ليس باستعارة بل هو حقيقة. ولذلك لا يقال: هو صائغ، ولا كأنه صائغ. وكذلك لا يقال: هو حائك، وكأنه حائك. قال: على أن لفظ حائك في غاية الركاكة إذا أخرج على ما أخرجه أبو تمام في قوله، من الطويل:
إذا الغيث غادى نسجه خلت أنه... خلت حقب حرس له وهو حائك
قال: وهذا قبيح جداً. والذي قاله البحتري: فحاك ما حاك، حسن مستعمل. والسبب في هذا الذي قاله إنه ذهب إلى أن غرض أبي تمام أن يقصد بخلت إلى الحوك، وأنه أراد أن يقول: خلت الغيث حائكاً، وذلك سهو منه، لأنه لم يقصد بخلت إلى ذلك. وإنما قصد أن يقول: إنه يظهر في غداة يوم من حوك الغيث ونسجه بالذي ترى العيون من بدائع الأنوار، وغرائب الأزهار، ما يتوهم منه أن الغيث كان في فعل ذلك وفي نسجه وحوكه حقباً من الدهر. فالحيلولة واقعة على كون زمان الحوك حقباً، لا على كون ما فعله الغيث حوكاً فاعرفه.
ومما يدخل في ذلك ما حكي عن الصاحب من أنه قال: كان الاستاذ أبو الفضل يختار من شعر ابن الرومي وينقط عليه، قال: فدفع إلي القصيدة التي أولها، من الطويل:
أتحت ضلوعي جمرة تتوقد
وقال: تأملها. فتأملتها، فكان قد ترك خير بيت فيها، وهو:
بجهل كجهل السيف والسيف منتضى... وحلم كحلم السيف والسيف مغمد
فقلت: لم ترك الأستاذ هذا البيت، فقال: لعل القلم تجاوزه. قال: ثم رآني من بعد فاعتذر بعذر كان شراً من تركه، قال: إنما تركته لأنه أعاد السيف أربع مرات. قال الصاحب: لو لم يعد أربع مرات فقال:
بجهل كجهل السيف وهو منتضى... وحلم كحلم السيف وهو مغمد
لفسدالبيت.
والأمر كما قال الصاحب. والسبب في ذلك أنك إذا حدثت عن اسم مضاف، ثم أردت أن تذكر المضاف إليه، فإن البلاغة تقتضي أن تذكره باسمه الظاهر، ولا تضمره. وتفسير هذا أن الذي هو الحسن الجميل أن تقول: جاءني غلام زيد وزيد، ويقبح أن تقول: جاءني غلام زيد وهو. ومن الشاهد في ذلك قول دعبل، من البسيط:
أضياف عمران في خصب وفي سعة... وفي حباء غير ممنوع
وضيف عمرو وعمرو يسهران معاً... عمرو لبطنته، والضيف للجوع
وقول الآخر، من الطويل:
وإن طرة راقتك فانظر فربما... أمر مذاق العود والعود أخضر
وقول المتنبي، من الطويل:
بمن نضرب الأمثال أم من نقيسه... إليك؟ وأهل الدهر دونك والدهر