لما قال: عفا من بعد أحوال، قدر كأنه قيل له: فما عفاه؟ فقال: عفاه كل حنان.
واعلم أن السؤال إذا كان ظاهراً مذكوراً في مثل هذا كان الأكثر أن لا يذكر الفعل في الجواب، ويقتصر على الاسم وحده. فأما مع الإضمار فلا يجوز إلا أن يذكر الفعل. تفسير هذا أنه يجوز لك إذا قيل: إن كانت الرياح لم تعفه فما عفاه؟ أن تقول: من حدا بهم وساقا، ولا تقول: عفاه من حدا. كما تقول، في جواب من يقول: من فعل هذا؟ زيد. ولا يجب أن تقول: فعله زيد. وأما إذا لم يكن السؤال مذكوراً كالذي عليه البيت فإنه لا يجوز أن يترك ذكر الفعل. فلو قلت مثلا: وما عفت الرياح له محلاً من حدا بهم وساقا؟ تزعم أنك أردت عفاه من حدا بهم، ثم تركت ذكر الفعل أحلت، لأنه إنما يجوز تركه حيث يكون السؤال مذكوراً، لأن ذكره فيه يدل على إرادته في الجواب، فإذا لم يؤت بالسؤال لم يكن إلى العلم به سبيل، فاعرف ذلك.
واعلم أن الذى تراه في التنزيل من لفظ قال مفصولاً غير معطوف هذا هو التقدير فيه، والله أعلم. أعني مثل قوله تعالى: " هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين. إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال سلام قوم منكرون. فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين. فقربه إليهم قال ألا تأكلون. فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف " جاء على ما يقع في أنفس المخلوقين من السؤال. فلما كان في العرف والعادة فيما بين المخلوقين إذا قيل لهم: دخل قوم على فلان فقالوا كذا، أن يقولوا: فما قال هو؟ ويقول المجيب: قال كذا، أخرج الكلام ذلك المخرج لأن الناس خوطبوا بما يتعارفونه، وسلك باللفظ معهم المسلك الذي يسلكونه. وكذلك قوله: " قال ألا تأكلون "، وذلك أن قوله: " فجاء بعجل سمين فقربه إليهم " يقتضي أن يتبع هذا الفعل بقول فكأنه قيل، والله أعلم: فما قال حين وضع الطعام بين أيديهم؟ فأتى قوله: " قال ألا تأكلون " جواباً عن ذلك. وكذا " قالوا لا تخف " لأن قوله: " فأوجس منهم خيفة " يقتضي أن يكون من الملائكة كلام في تأنيسه وتسكينه مما خامره. فكأنه قيل: فما قالوا حين رأوه وقد تغير ودخلته الخيفة؟ فقيل: " قالوا لا تخف "، وذلك والله أعلم المعنى في جميع ما يجيء منه على كثرته كالذي يجيء في قصة فرعون عليه اللعنة وفي رد موسى عليه السلام كقوله: " قال فرعون وما رب العالمين. قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين. قال لمن حوله ألا تستمعون. قال ربكم ورب أبائكم الأولين. قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون. قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون. قال لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين. قال أو لو جئتك بشيء مبين. قال فأت به إن كنت من الصادقين " جاء ذلك كله والله أعلم على تقدير السؤال والجواب كالذي جرت به العادة فيما بين المخلوقين، فلما كان السامع إذا سمع الخبر عن فرعون بأنه قال: " وما رب العالمين " ؟ وقع في نفسه أن يقول: فما قال موسى له؟ أتى قوله: " قال رب السماوات والأرض "، مأتى الجواب مبتدأ مفصولاً غير معطوف. وهكذا التقدير والتفسير أبداً في كل ما جاء فيه لفظ قال هذا المجيء. وقد يكون الأمر في بعض ذلك أشد وضوحاً.
فمما هو في غاية الوضوح قوله تعالى: " قال فما خطبكم أيها المرسلون. قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين " وذلك أنه لا يخفى على عاقل أنه جاء على معنى الجواب وعلى أن ينزل السامعون كأنهم قالوا: فما قال له الملائكة؟ فقيل: " قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين ". وكذلك قوله عز وجل في سورة يس: " واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون. إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون. قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون. وما علينا إلا البلاغ المبين. قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم. قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون. وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين. اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون " التقدير الذي قدرناه من معنى السؤال والجواب بين في ذلك كله، ونسأل الله التوفيق للصواب والعصمة من الزلل.