قوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوآ أَن يَكْفُرواْ بِهِ ﴾ اختلف فيمن نزلت هذه الآية على قولين :
أحدهما : أنها نزلت في رجل من المنافقين ورجل من اليهود كان بينهما خصومة، فقال اليهودي : أحاكمك إلى أهل دينك لأني أعلم أنهم لا يقبلون الرشوة، وقال المنافق : أحاكمك إلى اليهود منهم كعب بن الأشرف، لأنه علم أنهم يقبلون الرشوة، فاصطلحا أن يتحاكما إلى كاهن من جهينة، فأنزل الله فيهما هذه الآية ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ ﴾ يعني المنافق ﴿ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ ﴾ يعني اليهودي. ﴿ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ ﴾ يعني الكاهن، وهذا قول الشعبي ومجاهد.
والثاني : أنها نزلت في رجلين من بني النضير وبني قريظة، وكانت بنو قريظة في الجاهلية إذا قتلت رجلاً من بني النضير أقادوا من القاتل، وكانت بنو النضير في الجاهلية إذا قتلت رجلاً من بني قريظة لم تَقُد من القاتل وأعطوا ديته ستين وَسْقاً من تمر، فلما أسلم ناس من بني قريظة وبني النضير، قتل رجل من بني النضير رجلاً من بني قريظة فتحاكمواْ إلى النبي ﷺ، فقال النَّضِيِرِيُّ لرسول الله : إنا كنَّا في الجاهلية نعطيهم الدية ستين وَسَقاً من تمر، فنحن نعطيهم اليوم ذلك، وقالت بنو قريظة : نحن إخوان في النسب والدين وإنما كان ذلك عليه الجاهلية وقد جاء الإسلام، فأنزل الله تعالى يعيِّرهم بما فعلواْ ﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ﴾ [ المائدة : ٤٥ ]، ثم ذكر قول بني النضير ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ﴾ [ المائدة : ٥٠ ] ثم أَخَذَ النَّضِيرِيَّ فقتله بالقرظي، فتفاخرت النضير وقريظة ودخلواْ المدينة، فتحاكموا إلى أبي بردة الأسلمي الكاهن، فأنزل الله في ذلك ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُم ءَامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ ﴾ [ النساء : ٦٠ ] يعني في الحال، ﴿ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ ﴾ يعني حين كانوا يهوداً. ﴿ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ ﴾ يعني أبا بردة الأسلمي الكاهن، وهذا قول السدي.
قوله تعالى :﴿ فَكَيفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةُ.. ﴾ الآية في سبب نزولها قولان :
أحدهما : أن عمر قتل منافقاً لم يرض بحكم رسول الله ﷺ، فجاء إخوانه من المنافقين يطالبون بدمه، وحلفواْ بالله أننا ما أردنا في المطالبة بدمه إلا إحساناً إلى النساء، وما يوافق الحق في أمرنا.
والثاني : أن المنافقين بعد القَوَدِ من صاحبهم اعتذرواْ إلى رسول الله ﷺ في محاكمتهم إلى غيره بان قالواْ ما أردنا في عدولنا عنك إلا توفيقاً بين الخصوم وإحساناً بالتقريب في الحكم دون الحمل على مُرّ الحق، فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى :﴿ أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِم ﴾ يعني من النفاق الذي يضمرونه.
﴿ فَأَعْرِضْ عَنهُم وَعِظْهُم ﴾ وفي الجمع بين الإعراض والوعظ مع تنافي اجتماعهما في الظاهر - ثلاثة أوجه :
أحدها : أعرض عنهم بالعداوة لهم وعِظهم فيما بدا منهم.
والثاني : أعرض عن عقابهم وعظهم.
والثالث : أعرض عن قبول الأعذار منهم وعظهم.
﴿ وَقُل لَّهُم فِي أَنْفُسِهِم قَوْلاً بَلِيغاً ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أن يقول لهم : إن أظهرتم ما في قلوبكم قتلكم، فإنه يبلغ من نفوسهم كل مبلغ، وهذا قول الحسن.
والثاني : أن يزجرهم عما هم عليه بأبلغ الزواجر.


الصفحة التالية
Icon