قوله تعالى :﴿ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مِنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ﴾، وهذا جواب من الملائكة حين أخبرهم، أنه جاعل في الأرض خليفةً، واختلفوا في جوابهم هذا، هل هو على طريق الاستفهام أو على طريق الإيجاب؟ على وجهين :
أحدهما : أنهم قالوه استفهماً واستخباراً حين قال لهم : إني جاعلٌ في الأرض خليفة، فقالوا : يا ربنا أَعْلِمْنَا، أجاعل أنت في الأرض من يُفْسِدُ فيها ويسفك الدماء؟ فأجابهم : إني أعلم ما لا تعلمون، ولم يخبرهم.
والثاني : أنه إيجاب، وإن خرجت الألف مَخْرج الاستفهام، كما قال جرير :

أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايا وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ
وعلى هذا الوجه في جوابهم بذلك قولان :
أحدهما : أنهم قالوه ظناً وتوهُّماً، لأنهم رأوا الجن من قبلهم، قد أفسدوا في الأرض، وسفكوا الدماء، فتصوروا أنه إن استخلف استخلف في الأرض مَنْ يُفْسِدُ فيها ويَسْفِكُ الدماء.
وفي جوابهم بهذا وجهان :
أحدهما : أنهم قالوه استعظاماً لفعلهم، أي كيف يفسدون فيها، ويسفكون الدماء، وقد أنعمت عليهم واستخلفتهم فيها فقال : إني أعلم ما لا تعلمون.
والثاني : أنهم قالوه تعجباً من استخلافه لهم أي كيف تستخلفهم في الأرض وقد علمت أنهم يفسدون فيها ويسفكون الدماء فقال :﴿ إني أعلم ما لا تعلمون ﴾.
وقوله :﴿ وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ﴾ السفك صب الدم خاصةً دون غَيْرِهِ من الماء والمائع، والسفح مثله، إلا أنه مستعمل في كل مائع على وجه التضييع، ولذلك قالوا في الزنى : إنه سفاح لتضييع مائه فيه.
قوله تعالى :﴿ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾.
والتسبيح في كلامهم التنزيه من السوء على جهة التعظيم، ومنه قول أعشى بني ثعلبة :
أَقُولُ لَمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الْفَاجِرِ
أي براءةً من علقمة.
ولا يجوز أن يسبَّحَ عَيْرُ اللهِ، وإن كان منزهاً، لأنه صار علَماً في الدين على أعلى مراتب التعظيم الَّتي لا يستحقها إلا اللهُ تعالى.
وفي المراد بقولهم :﴿ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ﴾ أربعة أقاويل :
أحدها : معناه نصلي لك، وفي التنزيل :﴿ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ﴾ [ الصافات : ١٤٣ ]، أي من المصلين، وهذا قول ابن عباس وابن مسعود.
والثاني : معناه نعظِّمك، وهذا قول مجاهد.
والثالث : أنه التسبيح المعروف، وهذا قول المفضل، واستشهد بقول جرير :
قَبَّحَ الإلهُ وُجُوهَ تَغْلِبَ كُلَّمَا سَبَّحَ الْحَجِيجُ وَكَبَّرُوا إهْلاَلاَ
وأما قوله :﴿ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾ فأصل التقديس التطهير، ومنه قوله تعالى :﴿ الأرْضَ الْمُقَدَّسَةَ ﴾ أي المطهَّرة، وقال الشاعر :
فَأَدْرَكْنَهُ يَأْخُذْنَ بالسَّاقِ وَالنَّسَا كَمَا شَبْرَقَ الْوِلْدَانُ ثَوْبَ الْمُقَدَّسِ
أي المطهَّر.
وفي المراد بقولهم :﴿ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾ ثلاثةُ أقاويلَ :
أحدها : أنه الصلاة.
والثاني : تطهيره من الأدناس.
والثالث : التقديس المعروف.
وفي قوله تعالى :﴿ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ ثلاثةُ أقاويل :
أحدها : أراد ما أضمره إبليس من الاستكبار والمعصية فيما أُمِرُوا به من السجود لآدم، وهذا قول ابن عباس وابن مسعود.
والثاني : مَنْ في ذرية آدم في الأنبياء والرُّسُلِ الذين يُصْلِحُونَ في الأرض ولا يفسدون، وهذا قول قتادة.
والثالث : ما اختص بعلمه من تدبير المصالح.


الصفحة التالية
Icon