قوله تعالى :﴿ وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْه إحْسَاناً ﴾ في قراءة أهل الكوفة وقرأ الباقون حسناً. قال السدي : يعني براً.
﴿ حَمَلْتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً ﴾ أي حملته بمشقة ووضعته بمشقة. وقرىء كرهاً بالضم والفتح. قال الكسائي والفراء في الفرق بينهما أن الكره بالضم ما حمل الإنسان على نفسه، وبالفتح ما حمل على غيره.
﴿ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَ ثُونُ شَهْراً ﴾ الفصال مدة الرضاع، فقدر مدة الحمل والرضاع ثلاثون شهراً، وكان في هذا التقدير قولان :
أحدهما : أنها مدة قدرت لأقل الحمل وأكثر الرضاع، فلما كان أكثر الرضاع أربعة وعشرين شهراً لقوله تعالى :﴿ حَولَينِ كَامِلَينِ لِمَنْ أَرادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ﴾ [ البقرة : ٢٣٣ ] دل ذلك على أن مدة أقل الحمل ما بقي وهو ستة أشهر، فإن ولدته لتسعة أشهر لم يوجب ذلك نقصان الحولين في الرضاع، قاله الشافعي وجمهور الفقهاء.
الثاني : أنها مدة جمعت زمان الحمل ومدة الرضاع، فإن كانت حملته تسعة أشهر؛ أرضعته أحداً وعشرين شهراً، وإن كانت حملته عشرة أشهر أرضعته شهراً لئلا تزيد المدة فيهما عن ثلاثين شهراً، قاله ابن عباس.
﴿ حَتَّى إذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ ﴾ وفي الأشد تسعة أقاويل :
أحدها : أنه البلوغ، قاله ابن مالك والشعبي وزيد بن أسلم.
الثاني : خمسة عشر سنة، قاله محمد بن أويس.
الثالث : ثماني عشرة سنة، قاله ابن جبير.
الرابع : عشرون سنة، قاله سنان.
الخامس : خمسة وعشرون سنة، قاله عكرمة.
السادس : ثلاثون سنة، قاله السدي.
السابع : ثلاثة وثلاثون سنة، قاله ابن عباس.
الثامن : أربعة وثلاثون سنة، قاله سفيان الثوري.
التاسع : أربعون سنة، وهو قول عائشة، والحسن.
﴿ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : لأنها زمان الأشد، وهو قول من ذكرنا.
الثاني : لأنها زمان الاستواء، قال زيد بن أسلم : لم يبعث الله نبياً حتى يبلغ الأربعين.
وقال ابن زيد : وقوله تعالى لموسى ﴿ وَاسْتَوَى ﴾ قال بلغ أربعين سنة. وقال الشعبي : يثغر الغلام لسبع ويحتلم لأربع عشرة، وينتهي طوله لإحدى وعشرين سنة، وينتهي عقله لثمان وعشرين، فما زاد بعد ذلك فهو تجربة ويبلغ أشده لثلاث وثلاثين.
الثالث : لأنها أول عمر بعد تمام عمر، قال ابن قيس.
﴿ رَبِّ أَوْزِعْنِي ﴾ قال سفيان معناه ألهمني.
قال ابن قتيبة : والأصل في الإيزاع هو الإغراء بالشيء، ويقال فلان موزع بكذا أي مولع به.
﴿ أَن أَشْكُر نِعْمَتَكَ الَّتي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أنعمت علي بالبر والطاعة، وأنعمت على والدي بالتحنن والشفقة.
الثاني : أنعمت عليَّ بالعافية والصحة، وعلى والديَّ بالغنى والثروة، وفي النعمة على كل واحد منهما نعمة على الآخر لما بينهما من الممازجة والحقوق الملتزمة.
وحكى أبو زهير عن الأعمش قال : سمعتهم يقولون إن الولد يأتيه رزقه من أربع خلال : يأتيه رزقه وهو في بطن أمه، ثم يولد فيكون رزقه في ثدي أمه، فإذا تحرك كان رزقه على أبويه، فإذا اجتمع وبلغ أشده جلس يهتم للرزق ويقول من أين يأتيني رزقي، فاختصت الأم بخلتين من خلال رزقه، واشترك أبوه في الثالثة، وتفرد هو بالرابعة، فذهب عنه الهم لما كان موكلاً إلى غيره، واهتم لما صار موكلاً إلى نفسه ليتنبه بذلك على التوكل على خالقه ليكون نقى لهمته وأقل لحيرته وأدرّ لرزقه، وليعلم أن لأمه عليه حقاً يعجز عن أدائه لما عانت من موارد رزقه ما عجز الخلق عن معاناته.


الصفحة التالية
Icon