﴿ أَفَرَءَيْتُمْ مَّا تَحْرُثُونَ ﴾ الآية. فأضاف الحرث إليهم والزرع إليه تعالى لأن الحرث فعلهم ويجري على اختيارهم، والزرع من فعل الله وينبت على إختياره لا على إختيارهم، وكذلك ما روي عن النبي ﷺ :« لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُم زَرَعْتُ وَلَكِن لِيَقُلْ حَرَثْتُ ».
وتتضمن هذه الآية أمرين :
أحدهما : الإمتنان عليهم بأن أنبت زرعهم حتى عاشوا به ليشكروه على نعمته عليهم.
الثاني : البرهان الموجب للإعتبار بأنه لما أنبت زرعهم بعد تلاشي بذوره وإنتقاله إلى إستواء حاله، [ من العفن إلى الترتيب ] حتى صار زرعاً أخضر، ثم جعله قوياً مشتداً أضعاف ما كان عليه، فهو بإعادة من مات أحق وعليه أقدر، وفي هذا البرهان مقنع لذوي الفطر السليمة.
ثم قول تعالى ﴿ لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً ﴾ يعني الزرع، والحطام الهشيم الهالك الذي لا ينتفع به، فنبه بذلك على أمرين :
أحدهما : ما أولاهم من النعم في زرعهم إذ لم يجعله حطاماً ليشكروه.
الثاني : ليعتبروا بذلك في أنفسهم، كما أنه يجعل الرزع حطاماً إذا شاء كذلك يهلكهم إذا شاء ليتعظوا فينزجروا.
﴿ فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ﴾ بعد مصير الزرع حطاماً، وفيه أربعة أوجه :
أحدها : تندمون، وهو قول الحسن وقتادة، ويقال إنها لغة عكل وتميم.
الثاني : تحزنون، قاله ابن كيسان.
الثالث : تلاومون، قاله عكرمة.
الرابع : تعجبون، قاله ابن عباس. وإذا نالكم هذا في هلاك زرعكم كان ما ينالكم في هلاك أنفسكم أعظم.
﴿ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لمعذبون، قاله قتادة، ومنه قول ابن المحلم :
وثقت بأن الحفظ مني سجية... وأن فؤادي مبتلى بك مغرم
الثاني : مولع بنا، قاله عكرمة، ومنه قول النمر بن تولب :
سلا عن تذكره تكتما... وكان رهيناً بها مغرماً
أي مولع.
الثالث : محرومون من الحظ، قاله مجاهد، ومنه قول الشاعر :
يوم النسار ويوم الجفا... ركانا عذاباً وكانا غراماً
﴿ أَفَرَءَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ﴾ أي تستخرجون بزنادكم من شجر أو حديد أو حجر، ومنه قول الشاعر :
فإن النار بالزندين تورى... وإن الشر يقدمه الكلام
﴿ ءَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ ﴾ أي أخذتم أصلها.
﴿ أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ ﴾ يعني المحدثون.
﴿ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : تذكرة لنار [ الآخرة ] الكبرى، قاله قتادة.
الثاني : تبصرة للناس من الظلام، قاله مجاهد.
﴿ وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوينَ ﴾ فيه خمسة أقاويل :
أحدها : منفعة للمسافرين قاله الضحاك، قال الفراء : إنما يقال للمسافرين إذا نزلوا القِيّ وهي الأرض القفر التي لا شيء فيها.
الثاني : المستمتعين من حاضر ومسافر، قاله مجاهد.
الثالث : للجائعين في إصلاح طعامهم، قاله ابن زيد.
الرابع : الضعفاء والمساكين، مأخوذ من قولهم قد أقوت الدار إذا خلت من أهلها، حكاه ابن عيسى.
والعرب تقول قد أقوى الرجل إذا ذهب ماله، قال النابغة :
يقوى بها الركب حتى ما يكون لهم... إلا الزناد وقدح القوم مقتبس
الخامس : أن المقوي الكثير المال، مأخوذ من القوة فيستمتع بها الغني والفقير.


الصفحة التالية
Icon