الثاني : أن معناهما مختلف.
وفي الفرق بينهما وجهان :
أحدهما : أن من قرأ بالتشديد أراد إخرابها بأفعالهم، ومن قرأ بالتخفيف أراد إخرابها بفعل غيرهم قاله أبو عمرو.
الثاني : أن من قرأ بالتشديد أراد إخرابها بهدمهم لها. وبالتخفيف أراد فراغها بخروجهم عنها، قاله الفراء.
ولمن تعمق بغوامض المعاني في تأويل ذلك وجهان :
أحدهما : يخربون بيوتهم أي يبطلون أعمالهم بأيديهم، يعني باتباع البدع، وأيدي المؤمنين في مخالفتهم.
﴿ ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : يعني بالجلاء الفناء ﴿ لعذبهم في الدنيا ﴾ بالسبي.
والثاني : يعني بالجلاء الإخراج عن منازلهم ﴿ لعذبهم في الدنيا ﴾ يعني بالقتل، قاله عروة.
والفرق بين الجلاء والإخراج - وإن كان معناهما في الإبعاد واحد - من وجهين :
أحدهما : أن الجلاء ما كان مع الأهل والولد، والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد.
الثاني : أن الجلاء لا يكون إلا لجماعة، والإخراج يكون لجماعة ولواحد.
﴿ ما قطعتم من لينة أو تكرتموها قائمة على أصولها فبإذن الله ﴾ وذلك أن النبي ﷺ لما نزل على حصون بني النضير وهي البويرة حين نقضوا العهد بمعونة قريش عليه يوم أحد قطع المسلمون من نخلهم وأحرقوا ست نخلات، وحكى محمد بن إسحاق أنهم قطعوا نخلة وأحرقوا نخلة، وكان ذلك عن إقرار رسول الله ﷺ أو بأمره، إما لإضعافهم بها أو لسعة المكان بقطعها، فشق ذلك عليهم فقالوا وهم يهود أهل كتاب : يا محمد ألست تزعم أنك نبي تريد الإصلاح؟ أفمن الصلاح حرق الشجر وقطع النخل؟ وقال شاعرهم سماك اليهودي :
ألسنا ورثنا كتاب الحكيم... على عهد موسى ولم نصدف
وانتم رعاء لشاء عجاف... بسهل تهامة والأخيف
ترون الرعاية مجداً لكم... لدي كل دهر لكم مجحف
فيا أيها الشاهدون انتهوا... عن الظلم والمنطق المؤنف
لعل الليالي وصرف الدهور... يدلن عن العادل المنصف
بقتل النضير وإجلائها... وعقر النخيل ولم تقطف
فأجابه حسان بن ثابت رضي الله عنه :
هم أوتوا الكتاب فضيعوه... وهم عمي عن التوارة يور
كفرتم بالقرآن وقد أتيتم... بتصديق الذي قال النذير
وهان على سراة بني لؤي... حريق بالبويرة مستطير
ثم إن المسلمين جل في صدورهم ما فعلوه، فقال بعضهم : هذا فساد، وقال آخرون منهم عمر بن الخطاب : هذا مما يجزي الله به أعداءه وينصر أولياءه فقالوا يا رسول الله هل لنا فيما قطعنا من أجر؟ وهل علينا فيما تركنا من وزر؟ فشق ذلك على النبي ﷺ حتى أنزل الله تعالى :﴿ وما قطعتم من لينة ﴾ الآية. وفيه دليل على أن كل مجتهد مصيب.
وفي اللينة خمسة أقاويل :
أحدها : النخلة من أي الأصناف كانت، قاله ابن حبان.
الثاني : أنها كرام النخل، قاله سفيان.
الثالث : أنها العجوة خاصة، قاله جعفر بن محمد وذكر أن العتيق والعجوة كانا مع نوح في السفينة، والعتيق الفحل، وكانت العجوة أصل الإناث كلها ولذلك شق على اليهود قطعها.
الرابع : أن اللينة الفسيلة لأنها ألين من النخلة، ومنه قول الشاعر :
غرسوا لينها بمجرى معين... ثم حفوا النخيل بالآجام
الخامس : أن اللينة جميع الأشجار للينها بالحياة، ومنه قول ذي الرمة :
طراق الخوافي واقع فوق لينة... ندى ليلة في ريشه يترقرق
قال الأخفش : سميت لينة اشتقاقاً من اللون لا من اللين.


الصفحة التالية
Icon