ص : ٢٩٠
فشبه سبحانه من آتاه كتابه، وعلمه العلم الذي منعه غيره. فترك العمل به واتبع هواه، وآثر سخط اللّه على رضاه، ودنياه على آخرته، والمخلوق على الخالق : بالكلب الذي هو من أخس الحيوانات، وأوضعها قدرا، وأخسها نفسا. وهمته لا تتعدى بطنه. وأشدها شرها وحرصا. ومن حرصه : أنه لا يمشي إلا وخطمه في الأرض يتشمم، ويستروح حرصا وشرها. ولا يزال يشم دبره دون سائر أجزاء جسمه وإذا رميت إليه بحجر رجع إليه ليعضه من فرط نهمته. وهو من أمهن الحيوانات وأحملها للهوان، وأرضاها بالدنايا والجيف القذرة المروحة أحب إليه من اللحم، والعذرة أحب إليه من الحلوى. وإذا ظفر بميتة تكفي مائة كلب لم يدع كلبا يتناول معه منها شيئا إلّا هرّ عليه وقهره، لحرصه وبخله وشرهه.
ومن عجيب أمره وحرصه : أنه إذا رأى ذا هيئة رثة وثياب دنية، وحال زريّة نبحه، وحمل عليه، كأنه يتصور مشاركته له، ومنازعته في قوته. وإذا رأى ذا هيئة وثياب جميلة ورئاسة : وضع له خطمه بالأرض، وخضع له، ولم يرفع إليه رأسه.
وفي تشبيه من آثر الدنيا وعاجلها على اللّه والدار الآخرة مع وفور علمه : بالكلب في حال لهثه : سر بديع. وهو أن هذا الذي حاله ما ذكره اللّه من انسلاخه من آياته واتباعه هواه : إنما كان لشدة لهفه على الدنيا. لانقطاع قلبه عن اللّه والدار الآخرة. فهو شديد اللهف عليها، ولهفه نظير لهف الكلب الدائم في حال إزعاجه وتركه. واللهف واللهث شقيقان وأخوان في اللفظ والمعنى.
قال ابن جريج : الكلب منقطع الفؤاد، لا فؤاد له : إن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث. فهو مثل الذي يترك الهدى، لا فؤاد له إنما فؤاده منقطع.
قلت : مراده بانقطاع فؤاده : أنه ليس له فؤاد يحمله على الصبر وترك