ص : ٥٨٥
العزة للكاثر كما قيل :
ولست بالأكثر منهم غنى وإنما العزة للكاثر
فلو حصلت له الكثرة من غير تكاثر لم تضره، كما كانت الكثرة حاصلة لجماعة من الصحابة، ولم تضرهم. إذ لم يتكاثروا بها. وكل من كاثر إنسانا في دنياه، أو جاهه، أو غير ذلك، أشغلته مكاثرته عن مكاثرة أهل الآخرة.
فالنفوس الشريفة العلوية ذات الهمم العالية إنما تكاثر بما يدوم عليها نفعه، وتكمل به وتزكوا، وتصير مفلحة. فلا تحب أن يكثرها غيرها في ذلك، وينافسها في هذه المكاثرة، ويسابقها إليها. فهذا هو التكاثر الذي هو غاية سعادة العبد.
وضده : تكاثر أهل الدنيا بأسباب دنياهم. فهذا تكاثر مله عن اللّه وعن الدار الآخرة. وهو جارّ إلى غاية القلة.
فعاقبة هذا التكاثر : قلّ وفقر وحرمان.
والتكاثر بأسباب السعادة الأخروية تكاثر لا يزال يذكر باللّه وبنعمه.
وعاقبته الكثرة الدائمة التي لا تزول ولا تفنى. وصاحب هذا التكاثر لا يهون عليه أن يرى غيره أفضل منه قولا، وأحسن منه عملا، وأغزر منه علما. وإذا رأى غيره أكثر منه في خصلة من خصال الخير يعجز عن لحوقه فيها كاثره بخصلة أخرى، وهو قادر على المكاثرة بها. وليس هذا التكاثر مذموما، ولا قادحا في إخلاص العبد، بل هو حقيقة المنافسة، واستباق الخيرات.
وقد كانت هذه حال الأوس مع الخزرج رضي اللّه عنهم في تصاولهم بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، ومكاثرة بعضهم لبعض في أسباب مرضاته ونصره.
وكذلك كانت حال عمر مع أبي بكر رضي اللّه عنهما. فلما تبين لعمر مدى سبق أبي بكر له قال :«و اللّه لا أسابقك إلى شيء أبدا».