والقسم الثاني: إذا كانت الياء لام الكلمة في الفعل وفي الإسم فإنها تسقط حيث يكون معنى الكلمة من مبدئه الظاهر شيئا بعد شيء إلى ملكوته الباطن إلى ما لا يدرك منه إلا إيمانا وتسليما فيكون حذف الياء منبها على ذلك وأنه لم يكمل اعتباره في الظاهر من ذلك الخطاب بحسب غرض الخطاب مثل: (وَسَوفَ يُؤتِ اللَهُ المُؤمِنينَ أَجراً عَظيماً) هو: (ما تَشتَهيهِ الأنفس وَتَلَذُ الأَعيُن) وقد اِبتدأ ذلك لهم في الدنيا متصلا بالآخرة، كذلك إلى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وكذلك: (وَإِنّ اللَهَ لَهادِ الَّذَينَ آَمَنوا) حذفت لأنه يهديهم بما نصب في الدنيا من الدلائل والعبر إلى الصراط المستقيم برفع درجاتهم في هدايته إلى حيث لا إلى غاية. قال تعالى: (وَلَدَينا مَزيد).
وكذلك: (وَماأَنتَ بِهادِ عَن ضلالَتِهِم) في الروم. هذه الهداية هي الكلية على التفصيل والتوالي التي ترقي العبد في هدايته من الآثار إلى ما لا يدركه العيان ليس ذلك للرسول عليه السلام بالنسبة إلى العيان ويدل على ذلك قوله تعالى قبلها: (فانظُر إِلى آَثارِ رَحمَةِ اللَهِ كَيفَ يَحيي الأَرضَ بَعدَ مَوتِها) الآية. فهذا النظر من عالم الملك ذاهبا في النظر إلى عالم الملكوت إلى ما يدرك إيمانا وتسليما من يقين البرهان.
فهذا الحرف على غير حال الحرف الذي في النمل قال فيه: (وَما أَنتَ بِهادِى العُمي عَن ضَلالَتِهِم) يثبت الياء وهي مثل تلك الآية في التلاوة.
ومعنى هذه الهداية هي الكلية العامة على التفصيل والإجمال وحصول الكمال. يدلك على ذلك قوله تعالى: (فَتَوَكَل عَلى اللَهِ إِنّكَ عَلى الحَقِ المُبين).
وكذلك: (بِالوادِ المُقَدَس) و (الوادِ الأَيمَن) مبدأ التقديس واليمن الذي وصفا به اتصل التقديس واليمن منهما إلى الحال بهما ذاهبا إلى ما لا يحيط بعلمه إلا الله.
وكذلك: (وادِ النَمل) هو موضع لإبتداءِ سَماعِ الخِطاب مِن أَخفَضَ الخَلق وهو النملة إلى أَعلاهُم وَهُوَ الهدهد والطير. ومن ظاهر الإنس وباطن الجن إلى قول العفريت، إلى قول الذي عنده علم من الكتاب، إلى ما وراء ذلك من هداية " الكتاب " إلى مقام الإسلام لله رب العالمين.
وكذلك: (وَلَهُ الجَوارِ المُنشَآتِ في البَحرِ كالأعلام) سقطت الياء تنبيها على أنها لله من حين إنشائها بعد أن لم تكن إلى ما وراء ذلك مما لا نهاية له من صفاتها وأحوالها. جميع ذلك كله له لا لغيره. له الخلق والأمر.
وكذلك: (الجَوارِ الكُنّس) حذفت الياء تنبيها على أنها تجري من محل اتصافها منها بالحناس إلى محل اتصافها بالكناس. وذلك يفهمنا منها أنها اتصفت بالخناس عن حركة تقدمت. فالوصف بالجواري الظاهر يفهم منه وصف بالجواري في الباطن. وهذا الظاهر مبدأ نفهمه. فالنجوم الجارية داخل تحت معنى الكلمة. وكذلك كل جار. وينبه ذلك على أن خروجنا للدنيا خناس عن الآخرة وأن رجوعنا إليها جرى وأن إقامتنا بها كناس، فافهم. فكذلك يوم الدنيا خنس من يوم الآخرة وهو يجري إليه ويكنس فيه بعد ذلك.
ويوم الآخرة هو جامع الأيام وميقات الأكوان الظاهرة مع الأزمان. ولأجل هذه المعاني في هذه الكلمة حذفت لاماتها وصلت بما أضيفت إليه أو وصفت به في اللفظ وإن كان منفصلا في العلم وفي الخط. فإن الإنفصال يؤل إلى الإتصال. وكل مفترق يعود إلى إجتماع، وذلك من آية الحشر والنشر.

فصل


ويلتحق بهذا القسم من جهة المعنى حرف النون الذي هو لام فعل يكون فإنه يحذف في بعض الكلمة تنبيها على صغر مبدأ الشيء وحقارته، وأن منه ينشأ ويزيد إلى ما لا يحيط بعلمه " إلا الله " مثل: (أَلَم يَكُ نُطفَة) حذفت النون تنبيها على مهانة مبدأ الإنسان وصغر قدره " بحسب ما يدرك " هو من نفسه ثم يترقى في أطوار التكوين (فَإِذا هُو خَصيمٌ مُبين) فهو حين كانَ نطفة كان ناقص الكون.
كذلك كل " رتبة " ينتهي إليها كونه هي ناقصة الكون بالنسبة إلى ما بعدها.
فالوجود " الدنيوي " كله ناقص الكون عن كون الآخرة، كما قال تعالى: (وَإِنّ الدارَ الآَخِرَةَ لَهِيَ الحَيوانُ لَو كانوا يَعلَمون).
وكذلك: (وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفها) حذفت النون تنبيها على أنها وإن كانت صغيرة المقدار حقيرة في الإعتبار فإن الله يربيها ويضاعفها إلى ما لا يعمله سواه.


الصفحة التالية
Icon