تفسير قوله تعالى: (قالت الأعراب آمنا...)
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: فقد تقدم مناقشة الأعراب في قولهم: (آمنا): ﴿ قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ﴾ [الحجرات: ١٤]، وتقدم التنبيه على هذه النكتة اللطيفة في قوله سبحانه: ﴿ وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ﴾ [الحجرات: ١٤]، بدلاً من أن يقول: (ولكن أسلمتم)؛ لأن فيه هذا شهادة لهم من الله بإسلامهم، ولكن من حسبان القول: (قالت) لا، (قولوا)، ﴿ وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ﴾ [الحجرات: ١٤].
وقدمنا بأن قوله سبحانه: ﴿ قَالَتْ الأَعْرَابُ ﴾ [الحجرات: ١٤]، قول عام مخصوص ببعض الأعراب، وهم جماعة من بني أسد أتوا إلى النبي ﷺ وقالوا: (آمنا).
والله سبحانه وتعالى قسم الأعراب إلى قسمين: منهم من آمن بالله وينفق في سبيل الله، ويتخذ ما ينفقه مغنماً وقربة عند الله، ومنهم من لم يؤمن، أو استسلم، أو نافق واتخذ ما ينفقه مغرماً وغرامة وقعت عليه.
أي: لا يؤمن بجزائها ولا بالثواب عليها؛ لأنه لا يؤمن بالبعث الذي هو يوم الجزاء.
وهذا القسم رجح والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في الأضواء بأنهم كانوا منافقين، أظهروا الإسلام أو قول الإيمان بألسنتهم ولمّا يدخل الإيمان في قلوبهم، وقال: إنهم أتوا إلى النبي ﷺ معلنين ذلك رغبة ورهبة، رغبة أن يشاركوا في الغنائم مع المسلمين، ورهبة في أن يقاتلوا وتسفك دماؤهم وتسلب أموالهم.
وبيّن سبحانه وتعالى في آخر السياق: ﴿ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً ﴾ [الحجرات: ١٤]، أي: مع قولكم (أسلمنا) ونفي الإيمان عنكم أن تطيعوا الله وتطيعوا الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الله ﴿ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ ﴾ [الحجرات: ١٤]، أي: لا ينقصكم من أجورها.
والله سبحانه وتعالى ليس بظلام للعبيد، حتى إن الكافر المعلن كفره إذا عمل من أعمال الخير فإن الله يجازيه عليها ولكن في الدنيا، أما في الآخرة، فكما قال في الآية الكريمة: ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً ﴾ [الفرقان: ٢٣].
وعلى هذا فالقرآن يبين لهؤلاء الناس الذين قالوا بألسنتهم، وصحح مقالتهم من الإيمان إلى الإسلام، ومع عدم وجود الإيمان المطابق لأقوالهم فإنهم إن أطاعوا الله وأطاعوا رسول الله ﷺ فإن أعمالهم محسوبة لهم ومحفوظة عليهم، ولا ينقص من أجورهم شيئاً؛ لذا سبق هذه الآية بقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: ١٣]، عليم بصدق ما قلتم، خبير بضمائركم وما تخفيه صدوركم، ليبين لهم حقيقة الموقف وما ينبغي أن يقولونه وهو مقالة الإسلام لا مقالة الإيمان.
وهناك من يقول: (لما) أخت (لم) في النفي، ولكن لما تشعر بأن النفي مؤقت وليس قطعياً أبدياً، وينتظر أو يرجى حصول هذا المنفي تدريجياً، ويمثلون لذلك بقول القائل: أثمر الشجر ولما يينع الثمر.
أي: أصل الثمرة موجودة ولكنها لا زالت ثبجة لا تصلح للأكل ولما تنضج، فهي في طريق النضج تدريجياً، وهكذا الثمار تبدأ ثبجة أولاً، ثم تتدرج في النضج إلى أن تستوي في نهايته وتكون ثمراً جنياً.
﴿ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ [الحجرات: ١٤]، هذا على العموم والإطلاق؛ لأن طاعة الله وطاعة الرسول ﷺ واجبة مطلقة، ولكن يأتي هناك استثناءات فيما إذا عجز الإنسان، أو حال دون ذلك حائل فإنه يغفر له ويسامحه في ذلك ﴿ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: ٢٨٦]، ويقول صلى الله عليه وسلم: ( إذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم )، فالفعل على الاستطاعة، والترك على القطع ( وإن نهيتكم عن شيء فاجتنبوه )، ليس هناك تبعيض في الاجتناب؛ لأن الترك سلبي، بخلاف الصلاة، فإنه عمل تكليف، والتكليف قد يشق على المكلف، وعند المشقة يأتي التيسير.


الصفحة التالية
Icon