الجهاد بالنفس والمال
قال الله: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [الحجرات: ١٥] حقيقة المؤمنين من آمن ﴿ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا ﴾ [الحجرات: ١٥]، ونبهنا على ما تفيده (ثُمَّ) بأن الإيمان وقع منهم حقيقةً من أول لحظة، ومع التأخير والتراخي لم يطرأ عليهم ما يغير هذا اليقين، ﴿ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا ﴾ [الحجرات: ١٥].
ثم جاء إثبات هذا اليقين الذي وقر في القلوب: (وَجَاهَدُوا)، الجهاد هو علامة أو نتيجة ذاك اليقين الذي وقر في قلوبهم، ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا ﴾ [الأحزاب: ٢٣].
فهنا علامة اليقين في قلوبهم أنهم جاهدوا.
وهل جاهدوا في أمر دنيا، أو منصب، أو مال؟ لا ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ).
فهنا قال سبحانه: ﴿ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا ﴾ [الحجرات: ١٥]، فكان الجهاد دليلاً على عدم الريب وعلى قوة اليقين، ثم جعل الجهاد قسمين: الأول: (بِأَمْوَالِهِمْ).
الثاني: (وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ).
يبحث العلماء في التقديم والتأخير، والأصل في التقديم: العناية بالمقدَّم في المتساويين، كما جاء في دخول النبي ﷺ مكة في حجة الوداع، فطاف وقالوا: من أين نبدأ في السعي؟ هناك صفا ومروة متساويتان، من الأولى إلى الثانية شوط، ومن الثانية إلى الأولى شوط، فقال صلى الله عليه وسلم: ( أبدأ بما بدأ الله به ).
إذاً: البداية لها تأثير، وهنا المال والنفس هل هما متساويان، حتى يقال: قدم أحد المتساويين فله أثر؟ هما يشتركان في الغاية؛ لأن المال صنو النفس، وفي الحديث: ( من مات دون ماله فهو شهيداً ).
إذاً: هناك من يقول: قُدِّم المال من باب التدرُّج؛ لأن الذي يجود بماله وبسخاء ولوجه الله يتدرج بعد ذلك ويجود بنفسه ويجاهد بنفسه ويعرِّضها إلى القتل شهادة في سبيل الله.
والبعض يقول: قدَّم المال؛ لأنه أعم من تقديم النفس، والله سبحانه وتعالى رفع الحرج عن النفس في بعض الحالات: ﴿ لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ﴾ [النور: ٦١]، ونعرف أن النسوة لسن داخلات في ذلك، كما قيل: كُتِب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيولِ القتل والقتال مكتوب على الرجال، والمرأة لا تقاتل بنفسها، والمريض والأعمى والأعرج لا يقاتل بنفسه؛ لأنه ليس أهلاً للقتال؛ ولكن هؤلاء الأصناف الأربعة: الأعمى والأعرج والمريض والمرأة: هل يمكن أن يقاتلوا بأموالهم أم لا؟ يمكن، يتبرع بجزءٍ من ماله، ويكون قد جاهد بماله.
إذاً: الجهاد بالمال أعم وأشمل؛ لأنه يعم من عُذر في الجهاد بالنفس.
ثم هؤلاء المجاهدون إذا لم يوجد مال يزودهم ماذا يفعلون؟ ونحن نعلم قضية البكائين الذين جاءوا إلى الرسول ﷺ وقال لهم: ﴿ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ ﴾ [التوبة: ٩٢].
إذاً: المال هو عصب الجهاد، ونحن في الوقت الحاضر هل الجهاد سيف ورمح، أم الجهاد آليات وكيماويات وإلى آخره، تلك الآليات بم تأتِ؟ كيف نحصل عليها؟ بالمال.
بعض الطائرات الحربية تكلف عدة ملايين، والصواريخ الموجهة تكلف عدة ملايين أيضاً.
إذاً: المال هو عنصر الجهاد الأساسي.
و عثمان رضي الله تعالى عنه لما جهَّز جيش العسرة قال له صلى الله عليه وسلم: ( لا عليك ألَّا تعمل بعد اليوم )، يكفيك من فعل الخير ما فعلتَه في هذا الجيش وجهَّزته.
ثم ننظر أيضاً فيما بينه سبحانه وتعالى في صلاة الخوف: ﴿ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً ﴾ [النساء: ١٠٢]، ثم بين (وَأَمْتِعَتِكُمْ)، بيَّن بأن أمتعة الغزاة أو أن أمتعة الجيش تعادل السلاح سواءً بسواء.
ومن هنا: حراسة المرافق: الكباري والطرق والمستودعات وخطوط المياه ومولدات الكهرباء ومستودعات الذخيرة أو الطعام كل ذلك قرين السلاح سواءً بسواء؛ لأن الجيش إذا لم تؤمَّن له مطالبه ضاع، وفي عادة الجيوش أنها تسبق مجيء الجنود، حتى تمدَّد مواسير المياه، وخطوط الاتصالات، وكل ما يحتاجون إليه، وتبني لهم المخابئ والمستودعات وتؤمَّن الذخيرة، كل ذلك بالمال.
إذاً: تقديم المال هنا لأهميته في الجهاد، ويمكن أن يساهم فيه من لا يستطيع أن يجاهد بالنفس، ولأن المال -كما يقال- عصب الجهاد.
﴿ وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ﴾ [الحجرات: ١٥]: كما قيل: يجود بالنفس إن ضن الجبان بها والجود بالنفس أقصى غاية الجودِ ولهذا يقولون: كل شجاع كريم، وكل بخيل جبان؛ لأن الشجاع يلقي بنفسه ويضحي بها، والذي يضحي بنفسه لا يضن بالمال، وكذلك البخيل الذي يشح بالدرهم والطعام لا يعرِّض نفسه للهلاك.