الإنفاق في سبيل الله قانون معاوضة في الخير
لقد بين سبحانه وتعالى أن الإنفاق والجهاد بالنفس في سبيل الله علامة على قوم الإيمان واليقين في القلوب، وبين من ناحية أخرى: بأن الحياة مبنية على قانون المعاوضة، فكل شيء تراه في الدنيا من معاملة بين اثنين، فقانون المعاوضة هو الذي يحكمها تدفع درهماً تأخذ خبزاً، تدفع درهمين تأخذ ثوباً، وكان قبل أن توجد النقود كان البيع بالمقايضة، يذهب صاحب البر بصاع من البر إلى الجزار ويأخذ منه لحماً، أو يذهب بكذا من التمر ويأخذ قماشاً، ما كانت هناك دراهم، فقد كانت المعاملة على المقايضة، فجاءت الدراهم كعملة سائلة، فصارت الحياة مبنية على المقايضة.
ولهذا لو رأيتَ إنساناً يتلف ريالاً ويشعل فيه النار أو يقطعه لقلتَ: هذا مجنون، ولو رأيتَ إنساناً يدفع الملايين في عقار لقلت: والله هذا ناجح، هذا رابح، مع أنه دفع الملايين؛ لكن في عوض يقابل ذلك، وهكذا.
حتى قال بعض العلماء: المقايضة قائمة بين الإنسان والحيوان، وذكروا قضية التمساح مع الطائر الذي يأتي وينقب ما بين أسنانه وينظفها، والطائر يشبع.
وذكروا قصة الرجل الذي جاء واشتكى بعيره إلى رسول الله ﷺ فقال: ( قوموا بنا إلى بعيره، ولما وصلوا إلى البستان قال أبو بكر لرسول الله: على رسلك يا رسول الله، إن البعير هائج.
قال له: على رسلك أنت يا أبا بكر.
ودخل ﷺ البستان على الجمل الهائج، فإذا بالجمل -حينما رأى رسول الله- يقبل عليه هادئاً، فيتلقاه رسول الله فيضع الجمل رأسه على كتفه، ويصغي إليه رسول الله، فإذا رسول الله يترجم لنا المحادثة بينهما، ويقول: يا صاحب الجمل، جملك يشتكي.
قِلة العلف، وكثرة الكُلف )، العلف: هو المعاوضة للبعير، والعمل: هو المعاوضة لصاحبه، فلابد أن يتعادل العلف مع مقدار الكُلف، ونحن نعلم هذا، عندك فرس وتريد أن تسافر لا تجوِّعه؛ بل قبل السفر بأسبوع تزيد في علفه تحسباً لمدة السفر، وهكذا.
فإذا كان قانون المعاوضة هو الذي يحكم قانون الحياة فهؤلاء الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، من أين العوض لهم؟ أم أنه خرج عن القاعدة؟ ما خرج عنها، ولكن العوض كما بين سبحانه: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ﴾ [البقرة: ٢٦١]، وبيّن المولى بأن هذا تعامل وقرض مع الله: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ ﴾ [البقرة: ٢٤٥].
إذاً: المنفق في سبيل الله والمتصدق على المحتاجين يتبادل العوض مع الله، وهذا بمقضى إيمانه ويقينه بالبعث والجزاء والأجر على ما أنفق، أما المنافق الذي لا يؤمن بالبعث ولا بالجزاء أتراه يتصدق بشيء ينفع؟ لا.
فماله الذي ينفق منه خبيث، يذهب إلى أردء ما عنده من أنواع التمر ويجيء به، وكانوا فيما سبق يأتون بالحشف، والمؤمنون يأتون بعذق النخل فيه الرطب والبسر والتمر يعلقونه لأصحاب الصفة، والمنافق يأتي ويعلق الحشف، كما بيّن الله في حق الأعراب: منهم ﴿ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً ﴾ [التوبة: ٩٨]، غرامة رائحة عليه، ومنهم من يعتبر ذلك مغنماً وقربات عند الله ورسوله.
إذاً: الذي يتصدق هو يتعامل بقانون المعاوضة؛ ولكن مع الله وليس مع الخلق: ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ ﴾ [الإنسان: ٨-٩] منكم، ما قال: لا نريد مطلقاً، لا.
بل منكم أنتم؛ لأنكم فقراء فماذا نأخذ منكم؟! ﴿ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً ﴾ [الإنسان: ٩-١٠] هناك يوم عبوس، هو الذي نعمل من أجله، ﴿ فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً ﴾ [الإنسان: ١١].
إذاً: تقديم الجهاد بالمال له أهميته، والجهاد بالنفس له خطورته.