مواقف من تفوق الأخوة الإيمانية على أخوة النسب
لقد فاقت الأخوة الإيمانية في مواقف عديدة على الأخوة النسبية؛ ففي وقعة بني المصطلق لما تخاصم غلام للمهاجرين لـ عمر وغلام للأنصار، فقال أحد الغلامين: يا للمهاجرين، وقال الآخر: يا للأنصار، فلما قالوا ذلك قال ابن أُبي : أو قد قالوها؟! ما نحن وهم إلا كمثل القائل: سمن كلبك يأكلك، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فجاء الغلام فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فشغل النبي ﷺ الناس بالمسير وقت القيلولة، حتى يشتغلوا بأنفسهم عن المهاترات أو النزاع، وخشية وقوع فتنة بينهم، فعلم ابن أُبي أن كلمته وصلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء يعتذر، ويقول: يا رسول الله ! ما بلغك عني ليس بصحيح، فإذا بالوحي ينزل: ﴿ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ ﴾ [المنافقون: ٨]، ثم بين سبحانه وحكم على ابن أُبي بما قاله: ليخرجن الأعز منها الأذل، هذه قضية عامة: من بقي بعد ذلك؟ من هو الأعز الذي سيخرج؟ فحكم الله فقال: ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ﴾ [المنافقون: ٨].
إذاً: الأعز هنا: الله ورسوله والمؤمنون، فيكون الأذل ابن أُبي وجماعته، وهذا ما يسميه علماء الأصول بموجب القول، بموجب ما حكم ابن أُبي حكم الله عليه، لكن بين أنه هو الأذل وهو الذي يستحق الإخراج.
فلما وصل المسلمون إلى المدينة، ودخل رسول الله ﷺ جاء عبد الله بن عبد الله بن أُبي واستل سيفه وأمسك بزمام ناقة أبيه، وأقسم ألا يدخل المدينة حتى يأذن رسول الله له بالدخول، ويعلم أنه هو الأذل، وأن العزة لله ولرسوله.
فأي رابطة أقوى؛ رابطة الإيمان أم رابطة النسب؟ لا شك أنها رابطة الإيمان.
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ( مروه فليأذن له ) فأذن له فدخل.
وبمثل هذه الأحداث تشيع شائعات، فأشيع في المدينة أن رسول الله سيقتل ابن أُبي بسبب مقالته تلك، فسمع بذلك ولده فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: بلغني أنك قاتل ابن أُبي، فما قال: أبي.
حتى لا يقال جاء يستعطف أو يتشفع وإنما تبرأ منه، ثم قال: إن كنت فاعلاً ذلك لا محالة، مرني آتيك برأسه فإني أخاف أن تأمر غيري يقتله، فلا أقوى أن أرى قاتل أبي يمشي على الأرض فأقتله فأهلك -فأكون قتلت مسلماً بكافر- فما كان من رسول الله ﷺ إلا أن طمأنه أنه لن يفعل ما أشيع، بل أبعد من ذلك، وانظروا إلى سماحة الإسلام والتمسوها، فإنه لا ينبغي أن نتشدد في الصغائر والتوافه ونترك عظام الأمور، هذا الذي أشيع وكان يستحق القتل في آخر أمره لما توفي جاء ولده بعاطفة البنوة، وكان من أبرِّ الناس بأبيه، وقال: يا رسول الله ! إن أبي مات، فأعطني قميصك أكفنه فيه لعل الله ينفعه به.
رأس المنافقين يطلب ابنه من رسول الله ﷺ أن يعطيه قميصه ليكفنه فيه، لعل الله ينفعه ببركة رسول الله فأعطاه، ولم يقل له: إن أباك له سوابق رجع بثلث الجيش في غزوة أحد، وترك المسلمين هناك، وله مواقف مؤلمة أقل واحدة منها كان يستحق عليها القتل، ولكن يقولون: بأن النبي ﷺ تعاطف مع عبد الله الولد إكراماً له، ولقوة إيمانه وصدقه مع المسلمين على أبيه، فكان ذلك معاوضة له، ثم طلب منه أن يصلي عليه فتقدم، و عمر يجره من ورائه، ثم جاءت الآية: ﴿ وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [التوبة: ٨٤]، فرابطته مع المسلمين أقوى من رابطته مع أبيه.
نأتي في غزوة أحد ونجد عبد الله بن أبي بكر، وقد أتى مع المشركين ويقول: هل من مبارز؟ فيكون أول من يقوم إليه أبوه أبو بكر، حتى يمسكه رسول الله ﷺ ويقول: ( أبق لنا نفسك يا أبا بكر )، فإذا قلنا: ذاك شاب مع أبيه، فذاك شيخ القوم.
وهذا أبو بكر لو وزن إيمانه بإيمان الأمة لرجح إيمان أبي بكر، ومع ذلك يقوم لملاقاة ولده والمبارزة، وكلتا الحالتين مصيبة؛ إن قتل قتل بيد ولده، أو هو قتل ولده، ولكن أخوة الإيمان ورابطته كانت أقوى من رابطة الأبوة والبنوة.
نأتي إلى معركة القادسية: يخرج رجل بعد المعركة ويطلب ابن عم له في الجرحى ومعه قدح من الماء، لعله يجده محتاجاً إلى الماء فيسقيه، فوجده يئن، قال: ألك حاجة في الماء؟ قال: بلى، فقدم إليه القدح، فلما أدناه إلى فيه سمع أنيناً بجواره، فقال له: اذهب إلى هذا فلعله أحوج إليه مني، فذهب به إلى الثاني فقال: ألك حاجة في الماء؟ قال: بلى، فلما أهوى بالقدح إلى فيه سمع أنيناً من رجل ثالث، فقال له: اذهب إلى هذا لعله أحوج إليه مني، فذهب به إلى الثالث، فما وصل حتى فاضت روحه فرجع إلى الثاني، فوجده قد فاضت روحه، ثم رجع إلى ابن عمه فوجده قد مات، تفيض أرواح الشهداء الثلاثة وكل منهم يؤثر أخاه على نفسه في تلك اللحظات الحرجة، ويبقى الماء في القدح مع صاحبه.


الصفحة التالية
Icon