العدل وأثره في حياة الأمم والملوك
﴿ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ﴾ [الحجرات: ٩]، مجيء القسط بعد العدل ماذا يفيد؟ قالوا: هما من المترادفات، وبعضهم يقول: العدل في الفعل والقسط في القول.
أي: حتى تكون المحاكمة والإصلاح بين الطائفتين المتقاتلتين في مساواة الكلمة والكلمة الطيبة، ونعلم بأن الصلح بين المتخاصمين أباح النبي ﷺ فيه الكذب للمصلحة، فلو أنك عرفت اثنين متخاصمين، أو أنهما كانا صديقين أو متجاورين وعلمت القطيعة بينهما وخشيت تفاقم الأمر، وأردت إصلاح الواقع، فجئت لأحد المتخاصمين وقلت له من عندك أنت: يا فلان لقد طالت الخصومة بينك وبين صديقك وهو متألم لذلك، ويأسف لهذا، ويتمنى إزالة ما بينكما، ومستعد أن يقدم ما تريد.
مع أنه ما قال لك أي شيء، ولكن أنت من نفسك تريد أن توطِّن بين الطرفين للصلح، فهو حين يسمع ذلك لا شك أنه سيلين سيقول: أهو يقول ذلك؟ إذا كان هو مستعد فأنا مستعد، وتذهب إلى صاحبه وتقول له مثلما قلت للأول، فحينئذ تهيأ الجو وتهيأت النفوس، وتوجهوا إلى إيقاع الصلح، فتجمع بينهما على خير، وتسعى بينهما، وقد سمح لك الإسلام أن تبدأ بحديث لم يقله أحدهما، ولكنك تريد الإصلاح، فلا مانع في ذلك.
﴿ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الحجرات: ٩]، العادلين الذين يعدلون بين الناس، وقد جاء في حق النجاشي رحمه الله ورضي عنه لما اشتد الأمر على المسلمين في مكة، ورأى رسول الله ﷺ ما عليه أصحابه من الشدة والضغط من المشركين قال: ( إن بالحبشة ملك عادل لا يضام أحد في جواره، أرى أن تذهبوا إليه إلى أن يجعل الله لكم مخرجاً )، فهذا كان على نصرانيته، وقد وصفه رسول الله ﷺ أنه عادل، وقد تبين فعلاً عدله هناك، وجاءت موقعة بدر وقتل فيها سادة قريش وصناديدها، وأرادت قريش أن تنتقم من المشركين، ماذا فعلوا؟ كان عمرو بن العاص من أصدقاء النجاشي، وكان كل سنة يذهب إليه بهدايا الحجاز، فأرسلوه ومعه شخص آخر، وقالوا: خذ الهدايا واذهب إليه وكلمه في من عنده من المسلمين فيأتيك بهم فنقتلهم؛ فيكون ذلك عوضاً لهم عمن قتلوا عن الذي حدث في بدر، فلما ذهب ووصل إلى النجاشي أخبره: أن قوماً من أهله أو قال: فئة من قومنا دخلوا إلى بلادك، خرجوا عن دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وأرسلني أهلهم لنردهم إليهم.
فما بادر الملك وقال: مرحباً بصديقي، ومرحباً بالهدايا، بل قال: قوم اختاروني على غيري وأتوا إلي، ولن أسلمهم حتى آتي بهم وأسألهم وأنظر ماذا عندهم، ثم بعد ذلك يكون التصرف.
فدعاهم وعندها اشتد الأمر على المسلمين حين جاءهم الأمر من الملك بالحضور، وكانوا علموا من قبل بمجيء عمرو داهية العرب، فقالوا: من الذي يكلّم الملك؟ فقال جعفر الطيار رضي الله عنه: أنا خطيبكم اليوم، فلما قدموا عليه همس عمرو في أذن الملك وهو جالس بجواره على سريره، وقال: إنهم لن يسجدوا لك كما تسجد لك العرب، فلما دخلوا لم يسجدوا له، فقال: أرأيت، لم يسجدوا لك ولم يكرموك كما نكرمك، ولم يدخلوا في دينك، فهم خرجوا على غيرهم، وهم خارجون عليك -يعني: لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء- فسكت الملك، فلما جاء جعفر ووقف بين يديه، قال له: لم تسجد لي كما يسجد الناس؟ قال: أيها الملك أعزك الله! ما كنا لنسجد لغير الله، لقد كنا نعبد الأحجار والأشجار والأصنام وكنا في جاهلية جهلاء، يأكل القوي فينا الضعيف، ونقطع الأرحام، ونقطع الطريق -وذكر له كل أخطاء الجاهلية- فأكرمنا الله برجل منا نعرف نسبه ومولده ونشأته؛ أتانا بالوحي من عند الله، فأمرنا بأداء الأمانة، والوفاء بالعهد، وصدق الحديث، وحسن الجوار، وصلة الرحم، وأن نعبد الله وحده، فقال: هل معك مما جاء به من شيء؟ قال: بلى، وقرأ عليه أوائل سورة طه، فما كان من الملك إلا أن هوى إلى الأرض، وأخذ قشة بين أنامله، وقال: والله ما زاد صاحبكم على ما جاء به عيسى بن مريم ولا مثل هذه القشة، حينئذٍ نخر من كان عنده من الرهبان والقسس، وأسقط في يد عمرو، ثم قال: ردوا الهدايا على من جاء بها، والله لا أرد هؤلاء، واذهبوا وأنتم السيوح.
أي: اذهبوا فأنتم مضمونون مكرمون، من اعتدى عليكم فكأنما اعتدى عليّ، ثم بعد ذلك أعلن إسلامه وإيمانه بالنبي صلى الله عليه وسلم، فتحقق قول رسول الله ﷺ أنه ملك عادل.