آداب المسلم في التعامل مع أخيه
قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ ﴾ [الحجرات: ١١].
تأملوا معي هذا النسق الكريم، وتحققوا وأيقنوا مما أسلفناه بأن هذه السورة الكريمة سورة الآداب أو سورة الحقوق، أو سورة الأخلاق على حسب ما تسمونها.
لما بين سبحانه وتعالى حق الله ثم حقوق النبي الكريم في حضوره وفي غيبته في بيته كرب أسرة، جاء إلى حق الجماعة فيما بينهم بالصلح بين الطائفتين المقتتلتين، وأداء الواجب وتحمل المسئولية من أجل أخوة الإيمان، فكأنه في ذلك يقول: قد تم بناء الأمة على الإخاء، والتزمت الأمة عدم التقدم بين يدي الله ورسوله، وتبادلت الاحترام لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم هي قامت بإصلاح ذات البين، واستقر الأمر وأصبحت خير أمة أخرجت للناس.
كيف نحافظ على ذلك كله؟ فإذا بالآية الكريمة بعد ذلك: ﴿ لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ ﴾ فلكأن السخرية سبب في كل المفاسد على وجه الأرض، ولكأن السخرية هي الباعث على ما وراءها من كبار المخاطر والأخطار التي تقع في المجتمع، والسخرية كما يقولون: هو أن تتنقص من تسخر منه.
ولماذا تسخر منه؟ لا يسخر إنسان من إنسان إلا إذا رأى لنفسه الفضل له على غيره، فيسخر منه.
يقول العلماء: إن أول معصية وقعت هي الحسد، فجرت إلى الكبر، فكانت النتيجة الطرد من رحمة الله، وذلك في قضية إبليس؛ حسد آدم على نعمة الله عليه بأن خلقه بيديه، ونفخ فيه من روحه، وأسجد الملائكة له، وأسكنه الجنة، فلما أمر بالسجود له تكبر عليه.
أقول: إن قبل الحسد السخرية؛ لأن الذي يسخر من إنسان يتنقصه فيستكثر نعمة الله عليه، ولذا جاءت الآية هنا، وأعتبرها بمثابة الوقاية للأمة بعد اكتمالها على أكمل ما يكون، وقاية من أسباب الفرقة والقتال والضياع، فبدأت أول ما يكون: (لا يَسْخَرْ) وكان ابن مسعود يقول: (والله إني أخاف إن خشيت من كلب أو خنزير أن يحولني الله كلباً أو خنزيراً).
وإذا نظرنا إلى قضية الحسد بين إبليس وآدم نقول: إن السخرية سبقت الحسد؛ لأن إبليس سخر من آدم أولاً، وكما في الأخبار: لما كان آدم من صلصال أجوف كان إذا ضربت عليه يصدر منه صوت كالطبل، فكان إبليس يدخل من طرفه ويخرج من طرفه الآخر ويقول للملائكة: سأوريكم شأن هذا، فكان يسخر منه، فلما جاءت نعم الله عليه ونفخ فيه من روحه، وصار إنساناً مكتملاً، توعد بين يدي الله أنه لا يسجد ﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [ص: ٨٢-٨٣] قال: ﴿ قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ [الإسراء: ٦٢].
قال: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً ﴾ [الإسراء: ٦١]، وقال: ﴿ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾ [ص: ٧٦].
لما رأى آدم حسده على تلك النعم ؛ لأنه في حسبانه لا يستحقها، فجر ذلك إلى الكبر، ولهذا أيها الأخوة: أول المعاصي في الأرض وأول الشحناء على وجه الأرض كانت بسبب السخرية، وقد وجدنا هذا المبدأ ضمن مبادئ أساسية للمعاصي، فنجد في القوم الذين سألوا نبيهم: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً ﴾ [البقرة: ٢٤٦-٢٤٧].
ماذا قالوا؟ ﴿ قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ ﴾ [البقرة: ٢٤٧]، هذا اصطفاء من الله، اصطفاه وذكر مقومات الملك والقيادة ﴿ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: ٢٤٧]، العلم للتخطيط والإرشاد، ولمصالح العالم، وقوة الجسم للتنفيذ، فهو لم يؤت سعة من المال، لأن المال لا يؤدي إلى الملك، وقد يكون الرجل لديه الخزائن، وقد تكون المرأة لديها الكنوز، ولكن لا تصلح لملك ولا لقيادة.
إذاً: المال من حيث هو ليس وسيلة للملك ولا وسيلة للقيادة.
ونجد أيضا في بعثة النبي ﷺ تقول قريش: ﴿ لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [الزخرف: ٣١-٣٢].
قرص العيش نحن الذين قسمناه، أفتريدون أنتم التحكم برحمة الله.
وهكذا المشركون عندما جاءوا إلى النبي ﷺ وقالوا: أبعد عنا هؤلاء المساكين.
لماذا ؟ سخرية من هؤلاء المساكين، والله قد عاتب رسوله في شأن ابن أم مكتوم في ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى ﴾ [عبس: ١].
إذاً: تبدأ الآية الكريمة بالنهي عن أخطر عناصر الأخلاق، وهو: سخرية إنسان من إنسان آخر.
فهذا لا ينبغي أبداً.
(لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ) أي: لا يتنقص، ولا يستهزئ، وهنا المقارنة أو المقابلة بين قوم ونساء، وهنا ينبه علماء التفسير الذين يتتبعون النكت في التفسير قالوا: قال هنا: (قَومٌ مِنْ قَوْمٍ) ثم عطف (نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ)، ألسن النساء يدخلن في معنى القوم.
قالوا: لغة لا.
فكلمة (قَوْمٍ) تختص بالرجال وهو من القوامة والقيام بشئون الأعمال، والنساء لا يقمن بشيء.
وما أدري إخا لك تدري أقوم آل حصن أم نساء ففصل بين القوم وهم الرجال وبين النساء، وهنا القسمة رباعية: قوم من قوم، نساء من نساء، جنس من جنس، لم يأت قوم من نساء، ولا نساء من قوم، قوم من قوم هذا جنس، نساء من نساء هذا جنس ثان، قوم من نساء لم يأت، نساء من رجال لم يأت.
يقول علماء التفسير: لأن طبيعة الإنسان من حيث هو أن تكون السخرية بين الرجال والرجال ؛ لأن الرجل هو الذي يتعاظم على الرجل فيسخر منه، وكذلك المرأة مع المرأة -أي: الجنس مع جنسه- أما رجل يسخر من امرأة فهذا لا يتأتى ؛ لأن الرجل لا يضع نفسه في مقابل المرأة حتى يسخر أو لا يسخر، فهو جاعلها في حسبان بعيد عنه، وكذلك المرأة بقوامها وبكيانها وبتكوينها لا تعطيها طبيعة خلقتها أن تسخر من رجل، لأنها تعلم بأن الرجولة كمال لا يمكن لها هي أن تسخر منه، ولو كان أقل الرجال منزلة فهو في حسبان الأمة أعلى منزلة من أعلى امرأة من حيث الرجولة والأنوثة، وإن كان بعض النسوة يفقن بعض الرجال في العقل، ولكن المعادلة: لا يسخر قوم من قوم ولا نساء من نساء.
ثم يبين: (عَسَى) وعسى من الله حقيقة (أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ)، ويبين الرسول ﷺ للأمة ذلك.
يقول ابن مسعود :( جلس النبي ﷺ مجلساً فمر رجل ليس ذا هيئة، فقال: ما تقولون في هذا ؟ قالوا: إن استأذن لا يؤذن له، وإن تحدث لا يصغى إليه، وإن خطب لا يزوج، فسكت عنهم، ثم جاء شخص آخر ذو هيئة ومنصب فقال: ما تقولون في هذا ؟ قالوا: إن استأذن أذن له، وإن تحدث أصغي إليه، وإن خطب زوج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لذاك خير من ملء الأرض من مثل هذا ).
ذاك استخفوا بهيئته وأنه ضعيف ولكنه عند الله يعادل ملء الأرض من غيره.
إذاً: لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكون المسخور منه خير منهم عند الله وكذلك النساء: ﴿ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ ﴾.
ثم أتى بعد ذلك بتوابع الأخلاق الذميمة التي يترتب عليه أيضاً فساد المجتمع؛ فقال: ﴿ وَلا تَلْمِزُوا ﴾ بعضهم يقول: الغمز بالعين، واللمز الإشارة باليد، وهو نوع من أنواع السخرية، يعرض به بدل أن يتكلم صراحة، أو يعتقد في قلبه شيئاً ثم يبرز ذلك بعينه أو بلمزه أو غير ذلك، وكل ذلك تعبير في فلك السخرية.
﴿ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ ﴾ (بِئْسَ): ضد نعم، أو كما يقولون: من أخوات نعم، لكن على العكس، بئس فعل ذم، ونعم فعل مدح.
(بِئْسَ الاِسْمُ)، والاسم من الوسم وهو العلم على الشخص، كل إنسان له اسم يميزه، وسمي الاسم اسماً؛ لأنه كالوسم والعلامة التي عليه تميزه عن الآخرين، وهذا من خصائص الإنسان، وقد يسمي بعض الناس الحيوانات بأسماء تخصها، ﴿ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ ﴾ أن تتسموا بالفسوق بعد أن كنتم مؤمنين.
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات: ١٠]؛ كنتم إخوة وتمت الأخوة بينكم، فإذا ما وقعت السخرية ووقع الغمز واللمز كان هناك اسم آخر بسبب ذلك هو الفسوق؛ لأن من سخر بأخيه وغمزه ولمزه وعامله بهذا الانتقاص كان ذلك فسوقاً؛ لأنه خروج عن الجادة، وإخراج الشخص عن مكانته.


الصفحة التالية
Icon