وجوب اجتناب كثير من الظن
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحجرات: ١٢] فلو قال: اجتنبوا بعضاً من الظن لكان هناك حرج؛ لأننا لا نستطيع أن نحدد كيف يكون الاجتناب، لكن إذا اجتنبنا كثيراً من الظن تأكدنا من أننا اجتنبنا بعض الظن الذي فيه إثم، وهذه فيها القاعدة الأصولية: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ولهذا نرى الفقهاء في مواطن التحديد في العبادات يطلبون الزيادة عن الحد للتأكد من استيعاب المحدود، فمثلاً: في قوله سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ﴾ [المائدة: ٦]، يقولون: حد الوجه من منبت الشعر طولاً من الجبهة إلى أسفل الذقن، لكن يقولون: ينبغي أن يزيد في منبت الشعر جزءاً بحيث أنه يتأكد بأنه استوعب الوجه كله، وكذلك في صوم رمضان في قوله سبحانه: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ﴾ [البقرة: ١٨٧]، يقول الفقهاء: ينبغي أن يمسك قبل أن يتبين ولو بلحظات ليتأكد أن إمساكه وقع في جزء من الليل، وأن كامل النهار سلم من أن يأكل أو يشرب فيه، ﴿ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ﴾، يكون إتمام الصيام إلى ما بعد نقطة الصفر من غروب الشمس، ليتأكد أنه استوعب النهار كاملاً بالإمساك، أما إذا جاء عند نقطة الصفر بالذات يمكن أن يكون أخذ جزءاً من النهار في أكله وشربه، فيكون ذلك إبطالاً لصيامه، لذلك لا يتم الصيام الواجب إلا بإتمامه وهو أخذ جزء من آخر الليل من الصباح، وأخذ جزء من أول الليل عند الغروب ليتأكد ؛ لأن ذلك مما لا يتم الواجب إلا به، وهذه الآية الكريمة تدل على ذلك: اجتنبوا الكثير؛ لأن القليل إثم، ولا نستطيع أن نتجنب القليل إلا إذا تجنبنا ما هو أكثر منه، حتى نتأكد أننا استوعبنا القليل الذي فيه الإثم.


الصفحة التالية
Icon