قال الطحاوي :"إن الحديث الثاني يظهر أن النبي - ﷺ - قاله أولا لما كان يظن أن الغيل يضر، ثم لما تبين له أنه لا يضر قال :"لقد هممت.... إلخ.
... و الظاهر خلاف هذا ؛ لوجوه :
... الأول : أن قوله - ﷺ - التي يبنيها على الظن بين أنه إنما قالها بناء على الظن، و الحديث الثاني جزم.
... الثاني : أن قوله :"إن الغيل يدرك الفارس فيدعثره" مما لا يظهر بناؤه على الظن.
الثالث : أن قوله – في الحديث الأول - :"لقد هممت..." ظاهر في أنه لم يكن قد نهى، فالظاهر أنه أراد أن ينهى أولا بناء على ما كان مشهورا بين العرب من أن الغيل يضر، ثم في حال فارس و الروم فقال الحديث الأول، ثم أعلمه الله - عز وجل - بأن الغيل يضره، و لو بعد حين، فقال الحديث الثاني.
و قد يجيء في الشريعة ما يشير إلى مسائل طبيعية، إذا دعت ضرورة، و لكنها تعرض بمعرض ديني، أو ينبه عليها إجمالا.
فمن الأول : النهي عن الشرب قائما، و قوله : إن الشيطان يشرب معه.
و من الثاني : النهي عن النفخ في الطعام و الشراب، و غي ذلك.
و المقصود : أن قول ذلك العالم : إن الشريعة إنما جاءت لتعليم الدين عقائد وأحكاما، و أما ما جاء فيها مما يتعلق بشيء من العلوم الطبيعية و التاريخ و نحوها فليس المقصود من ذكره التعريف بكنهه و حقيقته و كيفيته مفصلا، و إنا يذكر تنبيها على الآيات و المثلات. كل هذا صحيح، و لكن هل يقتضي هذا جواز أن يكون الواقع في تلك الأمور خلاف ظاهر الخبر الشرعي ؟
قد كنت أنكر هذا أشد الإنكار، وأقول : إن الظاهر حجة قطعية، و إنه إذا كان الواقع خلاف ظاهر الخبر كان الخبر كذبا، و إن لم يكن المقصود من الخبر بيان ذلك الأمر.
ثم رأيت في أصول الفقه مسألة تعضد ما قاله ذلك العالم، و هو قول بعضهم : إن النص إذا سيق لمعنى غير بيان الحكم، و كان عاما لا يحتج بعمومه في الحكم.
(١/٤٦)


الصفحة التالية
Icon