ثم ظهر لي وجه آخر: وهو أنه لما قال فيها: (وما أُوتيتُم مِن العلمِ إِلا قليلا) والخطاب لليهود، واستظهر على ذلك بقصة موسى في بني إسرائيل مع الخضر، التي كان سببها ذكر العلم والأعلم، وما دلت عليه من إحاطة معلومات الله عز وجل التي لا تحصى، فكانت هذه السورة كإقامة الدليل لما ذكر من الحكم وقد ورد في الحديث أنه لما نزل: (وما أُوتيتُم مِن العلمِ إِلا قليلا) قال اليهود: قد أُوتينا التوراة، فيها علم كل شيء، فنزل: (قُل لو كانَ البحرُ مِداداً لكلمات رَبي لنَفدَ البحر قبلَ أَن تنفد كلمات ربي ولَو جِئنا بمثلهِ مدداً) فهذا وجه آخر في المناسبة وتكون السورة من هذه الجهة جواباً عن شبهة الخصوم فيما قدر بتلك وأيضاً فلما قال هناك: (فإِذا جاءَ وعد الآخرةِ جِئنا بكُم لفيفاً) شرح ذلك هنا وبسطه، بقوله: (فإِذا جاءَ وعد ربي جعله دكاء) إلى (ونُفِخَ في الصور فجمعناهم جمعاً وعرضنا جهنم يومئذٍ للكافرين عرضاً) فهذه وجوه عديدة في الاتصال
سورة مريم
أقول: ظهر لي في وجه مناسبتها لما قبلها: أن سورة الكهف اشتملت على عدة أعاجيب: قصة أصحاب الكهف، وطول لبثهم هذه المدة الطويلة بلا أكل ولا شرب، وقصة موسى مع الخضر، وما فيها من الخارقات، وقصة ذي القرنين وهذه السورة فيها أعجوبتان قصة ولادة يحيى بن زكريا، وقصة ولادة عيسى، فناسب تتاليهما وأيضاً فقد قيل: إن أصحاب الكهف يبعثون قبل قيام الساعة، ويحجون مع عيسى ابن مريم حين ينزل، ففي ذكر سورة مريم بعد سورة أصحاب الكهف مع ذلك - إن ثبت - ما لا يخفى من المناسبة وقد قيل أيضاً: إنهم من قوم عيسى، وإن قصتهم كانت في الفترة، فناسب توالى قصتهم وقصة نبيهم
سورة طه
أقول: روينا عن ابن عباس وجابر بن زيد في ترتيب النزول: ان طه نزلت بعد سورة مريم، بعد ذكر سورة أصحاب الكهف وذلك وحده كاف في مناسبة الوضع، مع التآخي بالافتتاح بالحروف المقطعة وظهر لي وجهه آخر، وهو: أنه لما ذكر في سورة مريم قصص عدة من الأنبياء، وهم: زكريا، ويحيى، وعيسى، الثلاثة مبسوطة وإبراهيم، وهي بين البسط والإيجاز وموسى، وهي موجزة بجملة أشار إلى بقية النبيين في الآية الأخيرة إجمالاً وذكر في هذه السورة شرح قصة موسى، التي أجمل هناك، فاستوعبها غاية الاستيعاب، وبسطها أبلغ بسط، ثم أشار إلى تفصيل قصة آدم، الذي وقع مجرد اسمه هناك ثم أورد في سورة الأنبياء بقية قصص من لم يذكر في مريم، كنوح، ولوط، وداود، وسليمان، وأيوب وذي الكفل، وذي النون، وأشير إلى قصة من ذكرت قصته إشارة وجيزة، كموسى، وهارون، وإسماعيل، وزكريا، ومريم، لتكون السورتان كالمتقابلتين وبسطت فيها قصة إبراهيم البسط التام فيما يتعلق به مع قومه، ولم تذكر حاله مع أبيه إلا إشارة كما أنه في سورة مريم ذكر حاله مع قومه إشارة، ومع أنه مبسوطاً فانظر إلى عجيب هذا الأسلوب، وبديع هذا الترتيب
سورة الأنبياء
قدمت ما فيها مستوفي وظهر لي في اتصالها بآخر طه: أنه سبحانه لما قال: (قل كل متربص فتربصوا) وقال قبله: (ولولا كلمةٍ سبقت من رَبِكَ لكانَ لزاماً وأَجلا مسمى) قال في مطلع هذه: (اقترب للناس حسابهم) إشارة إلى قرب الأجل، ودنو الأمل المنتظر وفيه أيضاً مناسبة لقوله هناك: (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم) فإن قرب الساعة يقتضى الإعراض عن هذه الحياة الدنيا، لدنوها من الزوال والفناء، ولهذا ورد في الحديث أنها نزلت قيل لبعض الصحابة: هلا سألت النبي ﷺ عنها؟ فقال (نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا)
سورة الحج
أقول: وجه اتصالها بسورة الأنبياء: أنه ختمها بوصف الساعة في قوله: (واقترب الوعد الحق فإِذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا) وافتتح هذه بذلك، فقال: (إنَّ زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهلُ كُلُ مُرضِعَةٍ عما أَرضعت وتضعُ كُلَ ذاتِ حملٍ حملها وترى الناسَ سُكارى وما هُم بسكارى)
سورة المؤمنين
أقول: وجه اتصالها بسورة الحج: أنه لما ختمها بقوله: (وافعلوا الخير لعلكُم تُفلِحون) وكان ذلك مجملاً، فصَّله في فاتحة هذه السورة، فذكر خصال الخير التي من فعلها فقد أفلح، فقال: (قد أَفلحَ المؤمنون الذينَ هُم في صلاتِهِم خاشعون)